كشفت دراسة للدكتور أحمد محمد صلاح الدين, مدير إدارة تنمية الموارد البشرية والأثرية بالوجه البحرى وسيناء بوزارة الآثار, قدمت فى الملتقى العلمى الأول للباحثين فى الآثار الاسلامية والقبطية والذى عقد فى 19 مايو الماضى بالمنصورة عن بعض الأبعاد التاريخية لأشهر الحرفيين عن أن توقيعات الصناع على منتجاتهم, سواء كانت تحفا تطبيقية، أو أعمالا مصاحبة للمنشآت المعمارية كأعمال البناء أو الطلاء و الزخرفة, تمثل نوعاً من إعجاب واعتزاز الصانع بالقيمة الفنية التى صنعتها أصابعه، كما تدل على مدى اعتزاز الصانع بصنعته, أيضاً احتكار بعض الأسر لصناعات معينة وتوريثها لأبنائهم وأحفادهم ، مع الاحتفاظ بأسرارها بحيث تقتصر على أفراد أسرتهم, فكان يصعب على الغرباء عن الأسرة الدخول فى صفوفهم حفاظاً على أسرار هذه الصناعة . وتذكر الدراسة أسماء بعض الأسر التى تخصص أفرادها فى صناعة واحدة. ففى العصر الفاطمى هناك أسرة ابن الدهان التى اشتغل فيها مسلم وأخيه مترف بصناعة الخزف وطلائه. وهناك الأسرة التى ينتسب إليها الصانع الشهير محمد بن سنقر البغدادى صانع كرسى عشاء السلطان المملوكى الناصر محمد ابن قلاوون، وقد ورد توقيعه على الكرسى كالآتى: «عمل العبد الفقير الراجى عفو ربه المعروف بابن المعلم الأستاذ محمد ابن سنقر البغدادى السنكرى وذلك فى تاريخ سنة ثمانية وعشرين وسبعمائة فى أيام مولانا الملك الناصر عز نصره». وهو يتصدر صناع المعادن فى العصر المملوكى بصفة عامة ويتنسب إلى أسرة تخصصت فى صناعة المعادن وزخرفتها. كذلك أسرة أبى المعالى, التى اشتهرت بأعمال النجارة, ومنهم «عبيد» صانع تابوت الإمام الشافعى وكتب عليه عمل هذا الضريح المبارك للإمام الفقيه أبى عبدالله محمد بن ادريس العباسى رحمه الله صنعه عبيد النجار المعروف بأبى المعالى، ومنهم أيضاً «سليمان ابن معالى» صانع منبر نور الدين الشهير بالمسجد الأقصى الذى أحرقه الصهاينة. كما عرضت الدراسة لمدارس كانت لها مميزاتها وخصائصها الفنية فى كثير من مجالات الحرف والصناعات مثل مدرسة مسلم بن الدهان، التى تخصصت فى صناعة الخزف ذى البريق المعدنى، ومدرسة سعد التى تخصصت أيضاً فى صناعة الخزف فى أواخر العصر الفاطمى، واتخذ أصحاب هذه المدارس علامات وشعارات خاصة لمدارسهم . وتؤكد دراسة الدكتور أحمد صلاح الدين أهمية توقيعات الصناع في تأصيل موطن الصانع, وبالتالى موطن الصناعة, مما يعمل على سهولة نسب التحفة إلى وطنها ومركز صناعتها، والوقوف على منزلة الصانع بين أفراد طائفته, سواء كان تلميذاً أو غلاماً أو صانعاً أو أستاذاً أو مقاولاً . وأظهرت الدراسة القيمة التاريخية للصانع المصري, الذي ذاع صيته في العديد من الأقاليم الإسلامية. فلقد اعتمد العرب المسلمون على الصناع والفنيين الأقباط, ولم يقتصر استعانة العرب الفاتحين بالصناع المصريين على صنع كل ما يحتاجون إليه فى مصر وحدها، بل إننا نجد فى الوثائق التاريخية ما يدل على إرسال الصناع والعمال المصريين إلى الشام وبلاد العرب للعمل فى بناء المساجد أو زخرفتها, حيث عاين ابن بطوطة فى مغارة بالخليل لوحا رخاميا على قبر فاطمة بنت الحسين مكتوباً عليه «صنعه محمد بن أبى سهل النقاش بمصر». وفى العصر العثمانى قام بعمارة الكعبة مجموعة من المهندسين والعمال المصريين، كما أرسلت مصر جميع ما يلزم لهذه العمارة، وذلك بعد أن تصدعت جدران الكعبة وسقط الكثير من أحجارها نتيجة سيول قوية اجتاحت المسجد الحرام آنذاك. كما كانت مهارة ودقة الصانع المصرى سبباً فى نقل رؤساء الحرف والصناعات إلى القسطنطينية فى عهد السلطان سليم الأول لينشروا فيها صناعاتهم. وترصد الدراسة أيضا دور المرأة القاهرية الماهرة ذات الذوق الرقيق الراقى، التى أجادت القيام ببعض الحرف والصناعات كالنسيج والسجاد وصناعة الخزف والفخار، فقد عُثر فى أطلال الفسطاط على قاع طبق من الخزف يعود إلى العصر المملوكى عليه توقيع صانعته «عمل خديجة» ، كما ذكر علماء الحملة الفرنسية أن النساء المصريات كن يقمن بأعمال الغزل بعد أن يفرغن من أعمال البيت . وتلفت الدراسة إلى اهتمام صناع الأقاليم بالتوقيع على كل ما أنتجته أيديهم من تحف خشبية بأسمائهم بل وألقابهم ورتبهم فى طوائفهم, كما نلاحظ ذلك أيضاً بشكل كبير على الآثار التى ترجع لعصر أسرة محمد على . أما شكل التوقيعات على الآثار الإسلامية وصيغها فقد تعددت وتنوعت بوجه عام وعلى المنابر بوجه خاص، حيث تعد من التحف الخشبية الغنية بتوقيعات الصناع. فهناك توقيعات اكتفى فيها الصانع بذكر اسمه واسم المدينة التى ينتسب إليها: «الأزميرى، النيسابورى، الشيرازى، السمنودى، المحلاوى، الفوى» ، كما أن هناك توقيعات مسبوقة ببعض الألقاب الدالة على التذلل والعبودية لله عز وجل ومنها على سبيل المثال: «العبد الفقير الراجى رحمة ربه، الراجى عفو ربه، الفانى، الحقير» ، وأحياناً كثيرة يرد التوقيع ملحقاً ببعض الألقاب الدالة على تقوى الصانع, وقد تدل فى بعض الأحيان على كبر سنه أيضاً مثل «الشيخ والحاج والزاهد»، وهناك من الصناع من لحق بتوقيعه والطريقة الدينية التى يمارسها أو المؤسسة الدينية التى تعلم فيها مثل «الأزهرى والصوفى والمولوى», كما ترد التوقيعات مصحوبة بمهنة الصانع مثل «النجار والمرخم والخطاط والنقاش»، وأحياناً يكتفى الصانع بذكر اسمه بالإضافة إلى تاريخ الصناعة فقط، وفى أحيان أخرى يكتفى الصانع بكتابة توقيعه.