أعادت زيارة ولي ولى العهد ووزير الدفاع السعودي الأمير محمد بن سلمان إلى روسيا، ولقاءه مع الرئيس الروسى فلاديمير بوتين، إلى الذاكرة زيارة الأمير فيصل ابن سعود للاتحاد السوفيتى عام 1932، والتى كانت الأولى لزعيم عربى واستمرت 9 أيام، التقى خلالها بالزعماء السوفيت الذين أبدو حفاوة بالغة فى استقباله، وزار خلالها المقر المركزي للجيش الأحمر، والأكاديمية الجوية الحربية، وأطلع على الصناعة الروسية التي كانت تشهد تطورا متسارعا للغاية آنذاك. فقد كان الاتحاد السوفيتي أول دولة اعترفت بالمملكة العربية السعودية وأقامت العلاقات الدبلوماسية معها عام 1926، كما كانت المملكة أول دولة عربية أقامت علاقات دبلوماسية مع موسكو. واختار الروس قنصلا مسلما ليمثلهم لدى الملك عبد العزيز وهو كريم خان حكيموف، الذى كان يصلى مع الملك عبد العزيز فى المسجد جنباً إلى جنب، الأمر الذى عكس العلاقة الوطيدة والمباشرة التى كانت تربط المبعوث السوفيتى بالملك عبد العزيز، كما تشير المراسلات بين القيادات السوفيتية والملك عبد العزيز فى تلك الفترة إلى مدى حميمية العلاقة بين البلدين وروح الود والتفاهم التى كانت سائدة بينهما، وتقدير العاهل السعودي لطريقة موسكو فى التعامل وكونها تقيم العلاقات معه على قدم المساواة دون أن تحاول إملاء الشروط أو ممارسة ضغوط كما هو الحال بالنسبة للدول الأوربية الأخرى. وعقب ما يقرب القرن من الزمان، يعيد الأمير محمد بن سلمان الدفء للعلاقات الروسية السعودية بعد حوالى أربع سنوات من تجميد العلاقات بين موسكو والرياض على خلفية تباعد مواقف البلدين من الأزمة السورية. وقد شارك الأمير فى فعاليات منتدى سان بطرسبرج الاقتصادي الدولي خلال الفترة من 18 إلى 20 يونيو، والذى يعتبر حدثا دوليا سنويا مهما في عالم الاقتصاد والأعمال، جمع هذا العام ما يزيد على 6000 من ممثلى المؤسسات والشركات الدولية ورجال الأعمال وكبار العلماء والساسة من مختلف أنحاء العالم لمناقشة القضايا الاقتصادية العالمية والثنائية، فهو مناسبة لبناء الشراكات وعقد الصفقات وتأسيس التعاملات بين رجال الأعمال والمؤسسات الاقتصادية المختلفة. ورغم أن المنتدى اقتصادى فإن الملفات السياسية فرضت نفسها على المباحثات الثنائية بين الأمير محمد بن سلمان والرئيس بوتين نظراً لإلحاحها ومحوريتها. وفى مقدمتها الملف اليمنى حيث تسعى المملكة إلى تحييد الموقف الروسى من الأزمة، على الأقل، وهو ما استجابت له روسيا التى أكدت حيادها وعدم دعمها لطرف دون أخر سواء كان يمنيا أو إقليميا. وانعكس ذلك في امتناع موسكو عن التصويت على قرار مجلس الأمن 2216 بشأن اليمن، والذي تم تبنيه فى 14 أبريل الماضى استنادا إلى مشروع عربي يحظر توريد الأسلحة للحوثيين، ويؤكد دعم المجلس للرئيس اليمني عبد ربه منصور هادي ولجهود مجلس التعاون الخليجي .وعلى الجانب الروسى كان ملف الطاقة وأسعار النفط، وسبل مواجهة "داعش" ضمن الأولويات الروسية فى ضوء تصاعد المخاوف الروسية مع تسلل التهديد "الداعشى" إليها، وتنامى صلات التنظيم مع نظرائه فى القوقاز الروسى. على صعيد أخر، كان لمشاركة وفد عسكري سعودي رافق الأمير محمد بن سلمان في فعاليات منتدى "الجيش-2015" الذى عُقد بضواحي موسكو أهميتها، خاصة مع ما تردد من إبداء المملكة اهتماماً بالمنظومة الصاروخية العملياتية-التكتيكية روسية الصنع "إسكندر- إ"، وهى نسخة معدلة لمنظومات "إسكندر-إم" مخصصة للتصدير، وقامت روسيا بتطوير منظومات "إسكندر-إم" في التسعينات من القرن الماضي، وبدأ تجهيز الجيش الروسي بها في عام 2006. ويبلغ مداها 500 كيلومتر، ويمكن التحكم بالصواريخ البالستية التي تطلقها المنظومة طوال تحليقها، وهذا ما يجعل اعتراضها بوسائل الدفاع الجوي أمرا صعبا للغاية، كما يمكن استخدام هذه المنظومة لإطلاق صواريخ "إر-500" المجنحة عالية الدقة. وتعكس زيارة الأمير محمد بن سلمان لروسيا عدة دلالات، أولها، أن البلدين استطاعا تجاوز عقدة الأزمة السورية فى العلاقات بينهما، فى ضوء إدراك مشترك أن ما يجمعهما أهم وأوسع نطاقاً من تباعد المواقف حول سوريا، وأن هناك تحديات أخطر وأكثر إلحاحاً تدفع البلدين للتقارب والعمل المشترك. ثانيها، أن روسيا أصبحت فاعلا مؤثرا- دولياً وإقليمياً- من الصعب تجاوزه، وأن هناك حاجة للتنسيق والتعاون معها لتحقيق استقرار حقيقى فى المنطقة، خاصة وأن السياسة الروسية تنطلق من ضرورة الحفاظ على استقرار المنطقة كمتطلب أساسى لضمان المصالح الروسية، وهى بذلك ضد كل ما يهدد الاستقرار الإقليمى، كما إنها أميل إلى تحقيق أهدافها ومصالحها من خلال علاقات تعاونية مع دول المنطقة على النحو الذى يخدم مصالحها ومصالح الأطراف العربية. ثالثها، أن لدى روسيا الكثير مما يمكن أن تقدمه للدول العربية عامة والمملكة خاصة، وهى شريك جاد، ولعل اتفاقيات التعاون بين البلدين، التى تم توقيعها خلال الزيارة في مجال الطاقة والفضاء والتقنيات العسكرية، تكون بداية لشراكة ممتدة ومتعددة الأبعاد تخدم مصالح المملكة وتتطلع لها روسيا. إن زيارة الأمير محمد بن سلمان تمهد بقوة لزيارة العاهل السعودي المتوقعة لروسيا فى الخريف المقبل، والتى إن تمّت ستمثل نقلة نوعية فى العلاقات الروسية السعودية نهو تفاهم أعمق وتعاون أوسع نطاقاً يخدم مصالح البلدين والاستقرار والأمن الإقليمى.