وسط صخب الصناعات الصوتية المدوية، و تحولها الى سلعة للاستهلاك السريع، يظل ستديو الموسيقى الالكترونية الأول من نوعه في العالم موجودا ككائن متحفي يذكرنا بالأصوات التي انمحت. أنشئ الأستديو عام 1951 في مدينة كولونيا بألمانيا كمغامرة مبتكرة للتحول من الموسيقى التقليدية - و التي كانت تذاع على الهواء مباشرة أو تسجل للاذاعة - الى الموسيقى التى يمكن انتاجها اليكترونيا و ربما بدون تدخل أية الات موسيقية من الأساس. كانت تلك بالطبع نقلة تاريخية وقتها ليس فحسب في الصناعة الصوتية في حد ذاتها و انما في مفهوم الموسيقى أيضا. كانت ألمانيا بذلك الأولى بين قريناتها التي تطرق باب الحداثة في هذا المجال و تسمح بتكسير الكثير من المسلمات موسيقيا و صوتيا. و بالرغم من التطور المذهل الذي حدث في ستديوهات الصوت و تقنياتها منذ عام 1951 و حتى الأن، الا أن «ستديو الموسيقى الألكترونية» يظل محتفظا ببهائه أمام جميع زواره لأنه يقف شاهدا على مسار طويل و مركب ربما لم نكن لنفطن اليه لولا وجوده. هناك يمكنك أن تشاهد شرائط الكاسيت القديمة العملاقة، و الأصغر أيضا. يمكنك أن ترى الأجهزة القديمة التي كانت تعمل من خلال عدة أقسام و ملحقات لدرجة أن الجهاز الواحد قد يمتد أمتارا عرضا و طولا. أدركت و أنا أتفقد ذلك العالم الصوتي التاريخي كيف أن تقدم الفنون و الثقافة و التكنولوجيا يضغط الاشياء لتصبح أقل حجما، و تذكرت تفوق جهاز الراديو الترانزستور، وكيف أن موجة التصغير لم تتوقف حتى أصبح جهاز الراديو في حجم عقلة الأصبع بل أصبح مجرد تطبيق داخل جهاز المحمول.. لقد حققت تكنولوجيا الصوت على مدى الثلاثين عاما الماضية تقدما مذهلا ربما يسبق بقية مجالات تكنولوجيا الفنون وصناعاتها. ويمكننا ببساطة أن نقتفي أثر ذلك التقدم من خلال تتبع أشكال وأحجام الأجهزة التي يستخدمها المواطن العادي من أجل بث الصوت والموسيقى. لقد أصبحت الموسيقى أو الأغنية مجرد حيز رقمي داخل منظومة التكنولوجيا الرقمية، أصبحت مجرد عدد من الميجابايت. تحول الصوت الى منظومة تقنية لا يمكن الشعور بالبعد الأدمي وراءها، وتحديدا اذا ما قارناها بموسيقى الاسطوانات القديمة بل وشرائط الكاسيت و حتى السي دي. في تلك الأشكال الأقدم تتخذ الموسيقى كيانا ماديا ملموسا، ومن ثم نستمع الى الصوت و نمسك بوعائه أيضا. ونتمكن من الاحتفاظ بذلك الوعاء كذكرى و نمرره من شخص الى أخر. في الماضي، عندما كان هناك جرامافون -أو ما تلاه من أشكال أكثر تطورا- كان الاستماع الى الموسيقى يتخذ شكل الطقس و يرتبط بحالة اجتماعية ما، و مع تطور التكنولوجيا اختفى ذلك الطقس واختفت معه الحالة الاجتماعية الجمعية المرتبطة بالاستماع للموسيقى، و لم يتبق منها الا شكل الحفلات الموسيقية والتى غالبا لا تمت بصلة للاستماع الى الموسيقى بل ترتبط أكثر بالصرعات الشبابية الرائجة. وقف السيد «فولكر موللر» يسرد تاريخ بناء الموسيقى الالكترونية في المانيا، عرض على الزوار مقتطفات رائعة من أعمال «ستوكهاوزن» و«جون ماكجواير». شعرت أنه في سباق مع الزمن كي يحافظ على ذاكرة الصوت، هو الذي أتى الى ذلك الاستديو وهو شاب في مطلع العشرينات وقد أصبح الان في منتصف السبعينات. أدركت أنه لولا وجود هذا الرجل العظيم لما كنا عرفنا شيئا عن تلك الذاكرة، و أنه يحافظ على تاريخ الاستديو ويسرده للأخرين لأنه تاريخه الشخصي أيضا و قصة حياته. نحن نحيا في عالم من القطيعة المعرفية مع الماضي بينما نحن في أمس الحاجة الى مد الجسور و ادراك التاريخ في كليته. لم يعد أبناؤنا يعرفون شيئا عن ذكرياتنا ولا عن تاريخ أسرنا، لم تعد هناك أية مشتركات ثقافية مع أولادنا، ولا حتى أصبح بامكانهم أن يتفهموا حنيننا الى أم كلثوم والى رومانسية عبد الحليم حافظ و لا حتى علي الحجار. يتساءل السيد «فولكر موللر» في حسرة عن جدوى معرفة الماضي اذا كان الشباب الأن يستهلكون المنتجات الحديثة والمفصولة تماما عن الزمن الماضي، يتساءل عن فائدة المعرفة ذاتها في عصر قائم على الاستهلاك. وأقول أنه لولا وجود ذلك الماضي و ذلك التاريخ لما وصلنا لما نحن فيه الأن، أقول أيضا أن الاتصال بالذاكرة يتيح لنا معرفة تمكننا من الانتاج وليس فقط من الاستهلاك، معرفة بصناعة الأشياء ومساراتها أبعد من مجرد استهلاكها والالقاء بها، انها تلك المعرفة التي تصنع الكليات و الهوية، أما منظومة الاستهلاك فتفتت و تفصل و تضغط الهويات. لا يمكنني أن أنظر للموسيقى وللصوت الا باعتبارهما مكونا أسياسيا من مكونات هوياتنا و ذكراتنا الشخصية والجمعية، و أشعر بالأسى عندما لا أتمكن من وصل تاريخي السمعي من الثمانينات الى الأن وربطه مع موسيقى التيك اواي التي تسمعها ابنتي، بل وتنتج منها التكنو بنفسها. ربما لذلك يتملكنا الحنين فننقض على صفحات الثمانينات على اليوتيوب و تظهر موجات الفيسبوك من اعلانات زمان و غيره، لكن كل ذلك لا ينفي واقع قطيعة الذاكرة و التاريخ في مجتمعنا، بل و سائر المجتمعات. و بينما يتم حتى الأن الاحتفاظ بالسيد «فولكر» لأنه الوحيد الذي يستطيع تشغيل تلك الأجهزة العتيقة بغرض رقمنة محتويات الاستديو، الا أنه سوف يتم التخلص منه فور الانتهاء من تلك العملية. و أعتقد أنهم هكذا سوف يكونون أيضا قد تخلصوا من ذاكرة الاستديو ذاتها حتى لو نجحت عملية الرقمنة و التي لاتخرج –في نظري- عن كونها أرشفة حديثة. لذلك فقد قررت الاحتفاظ بجميع شرائط الكاسيت القديمة، و سوف أنسى السيديهات لأنها مصممة رقميا كي تنمحي بعد خمسة عشر عاما، أنها مصممة كي تفقد الذاكرة مقابل منحنا استهلاكا سهلا سريعا.