استوقفنى فيلم تسجيلى قصير تداوله رواد موقع «فيسبوك» أخيرا ثم ما لبث أن ظهر على بعض الفضائيات أيضاً وعنوانه «مصر العظيمة». ويبدأ الفيلم بصور لمحمد على الكبير وخلفائه حتى آخر الملوك فاروق الأول، ثم يستعرض لقطات تظهر جمال القاهرة والاسكندرية فى عهد الملكية، ويتناول عدداً من الحقائق من تاريخ مصر فى تلك الحقبة مثل إنتاجها أجود الأقطان العالمية، وافتتاحها أول محطة لتوليد الطاقة الشمسية فى العالم، بجانب الحديث عن انتعاش الاقتصاد المصرى فى العهد الملكى بمعدل بطالة يقل عن 2%، وارتفاع قيمة الجنيه المصرى لأكثر من أربعة جنيهات استرلينية، وكيف كانت مصر تعطى المعونات لبعض الدول الأوروبية. للوهلة الأولى يمكن النظر إلى ما ينشر على هذه المواقع باعتباره يعكس حالة من الحنين إلى الماضى (النوستالجيا) التى تعترى المجتمع المصري، وهى حالة يرفض فيها الإنسان الواقع الذى يعيش فيه ويعجز عن التعايش مع معطياته السلبية، فيغلب عليه الحنين إلى أيام ما يسميه «الزمن الجميل». ولكن من يتأمل المشهد الإعلامى والاتصالى بعمق لا بد من أن يذهب إلى أبعد من ذلك، فاللعب على أوتار الحنين إلى الماضى ما هو إلا أحد مكونات منظومة أكبر تهدف إلى نشر السخط على الحاضر وزعزعة الثقة فى النفس وزرع جذور الإحباط فى صفوف أبناء الشعب، وبخاصة الشباب الذين كانوا وقود ثورتى يناير 2011 ويونيو 2013. فهذا الجيل بالتأكيد لم يعاصر عهد الملكية، بل إنه أيضاً نتيجة لاستراتيجية تعليمية قاصرة ومدانة قد افتقر إلى القراءة المتعمقة لتاريخ بلاده وفهم لحقيقة الحقبة الملكية وما حفلت به من ظلم اجتماعى واقتصادى فى ظل نظام إقطاعى ركز ثروة البلاد فى يد مجتمع «النصف بالمائة» ناهيك عن تحالفه مع الاحتلال الأجنبى على حساب الكرامة والعزة الوطنية واستقلال البلاد، وغيرها من المثالب التى ارتكبها النظام الملكى والتى أدت إلى تفجر ثورة 23 يوليو 1952. وإزاء هذا الفراغ الثقافى وتجريف التاريخ الوطنى أصبح من السهل زرع الأفكار المغلوطة والحقائق المشوهة فى أذهان شباب مصر، مما يزيد من حالة الارتباك فى المشاعر والتناقض الوجدانى التى تعتريه؛ فرغم مشاركته فى الثورتين فإنه فى الوقت نفسه ينجذب إلى مادة تفيض بالحنين إلى العصر الملكى حين كانت مصر كما قيل له «عظيمة» !!!! أما باقى مكونات تلك المنظومة التى تستهدف وجدان وعقول شبابنا فهى حافلة بمحاولات ضرب الثوابت فى الثقافة المصرية وتفكيك أواصر الدولة والمجتمع؛ فمن خروج بأفكار مغلوطة تحت دعاوى تجديد الفكر الديني، إلى إطلاق دعوة لخلع الحجاب، ثم أخرى لإباحة تداول الحشيش للحد من إدمان المخدرات الصلبة والأكثر خطورة، ونشر تقارير سلبية حول أداء جهاز الشرطة، ونشر العديد من الشائعات للتشكيك فى أى انجازات تتم على أرض الواقع بشكل ممنهج ومحترف. كل ذلك يتم باستخدام الإعلام الخاص فى ظل تراجع أداء ومصداقية الإعلام الرسمي، ولكن الأخطر من ذلك كله استخدام هذه المنظومة مواقع التواصل الاجتماعى التى أضحت المصدر الأول لمعرفة الأخبار وللتعبير عن الرأى لدى الغالبية من الشباب المصري. والنتيجة الحتمية لكل ما سبق هى حالة السلبية والإحباط التى تسيطر على قطاع من الشباب وعدم ثقته بالحاضر وفقدانه الأمل فى المستقبل، ومن ثم تحوله نحو صورة مزيفة للماضي. إن مصر «العظيمة» لا تكمن فى صفحات الماضى الملكي، بل إن من يتأمل باقى صفحات التاريخ المصرى سوف يقف على سر هذه العظمة وتجلياتها عبر العصور الممتدة إلى بدايات الحضارة الإنسانية، والتى تكمن فى قدرة مصر وشعبها على هضم الثقافات التى وردت إليه حقبا بعد حقب، وعلى الأخذ منها بما يغذى تكوينه الثقافى ويشكل فى النهاية شخصية مصر الفريدة. فجوهر عظمة مصر هو قدرة شعبها على الصمود فى وجه التحديات، ويكفى كى تتجلى هذه الحقيقة واضحة للعيان أن يستعرض المرء ما مرت بها مصر منذ ثورة يناير 2011 من محاولات تمزيق نسيج المجتمع المصرى وتفكيك مؤسسات الدولة، والاستجابة لمخططات الغرب فى تقسيم البلاد، والمحاولات الفاشلة المتتالية لتفجير الفتنة الطائفية أو زرع الخبرة العراقية والسورية فى الحرب الأهلية والصراعات الدموية، وهى مشاهد وخبرات لم يعرفها المصريون طوال تاريخهم ومن ثم لفظتها التربة المصرية. لقد سقطت دول شقيقة صريعة التناحر الطائفى والصراع على السلطة ولم تتحمل عبء موجات «الربيع العربي» أما مصر فقد كان صمود شعبها مذهلاً لأعدى أعدائها الذين أساءوا الظن بمعدن الشعب المصرى الأصيل. وتفرض المرحلة الفاصلة التى تمر بها مصر وما تواجهه من أخطار وتحديات إعطاء الأولوية لنهضة ثقافية تستهدف روح ووجدان الأجيال الصاعدة لتمحو آثار التجريف الثقافى الذى طالها على مدى عشرات السنين. فحتى الآن لم ترتق الحركة الفنية والأدبية فى مصر إلى مستوى ما سطره شعبها من ملاحم للصمود منذ ثورة يناير، بل إن المجال قد ترك واسعاً لمن يريد أن يغزو العقل والوجدان المصرى بأفكاره المسمومة أو إنتاجه الهابط والمسف. وللدولة المصرية أسوة حسنة فيما انتهجته ثورة يوليو 1952 حين استنفرت بعد شهور قليلة من قيامها قوة مصر الناعمة فى مجالات الأدب والشعر الغنائي، والإنتاج السينمائى والمسرحي، فخرجت علينا بروائع فنية مازالنا نستدعيها فى كل مناسبة وطنية، ولا نجد عنها بديلاً. ولقد آن الأوان كى تسارع الدولة إلى رأب التصدعات التى وقعت خلال السنوات الأربع الماضية والتى أصابت منظومة القيم فى المجتمع المصرى وأربكت مشاعره الوطنية وثوابته الفكرية، وذلك من خلال سياسة ثقافية توظف الطاقات الكامنة فى الوجدان المصري، وتشحذ إمكاناته ومعينه الفنى والأدبى الذى لم ينضب عبر التاريخ، والذى منح مصر الريادة فى تلك المجالات فى محيطها الإقليمي. ولا بديل عن أن تستنفر الدولة مؤسساتها الثقافية وأن تدخل بثقلها فى الإنتاج الدرامى والفني، حيث لا يملك الذين أفرزوا أفلام المقاولات والمسلسلات الهابطة تحمل مسئولية بناء هذا الأساس الصلب للشخصية المصرية أو الحفاظ على جوهر «عظمة مصر» عبر العصور. لمزيد من مقالات د.نجوى الفوال