كانت الإذاعة المصرية فى العصر الذهبى للفنون والآداب تستعد لشهر رمضان قبل موعده بثلاثة أشهر وكانت اللجان المتخصصة فى الدراما والبرامج والموسيقى والغناء تطلب من كتاب الدراما مسلسلاتهم الدرامية التى تذاع فى الشهر الكريم كما تطلب هذه اللجان من الشعراء والملحنين أعمالهم الدينية سواء كانت فى الأغنية أو الأدعية أو الابتهالات وغيرها تقديم مصنفاتهم لعرضها على لجان النصوص والاستماع كما تطلب اللجان الخاصة ببرامج المنوعات من المتخصصين فى هذا النوع من الفن مقترحاتهم الخاصة بالسهرات وبرامج المنوعات التى تذاع فى الشهر الكريم ونجوم الغناء المشاركين فى هذا الشهر حيث كانت الاذاعة بمثابة خلية نحل مكتظة طوال الشهر بكل الفنانين سواء كانوا كتاباً وأدباء وشعراء وممثلين وملحنين الذين يتسابقون لعرض أعمالهم من خلال اذاعتهم العريقة وكانت لجنة مراقبة الموسيقى والغناء التى يشرف عليها الاذاعى الراحل وجدى الحكيم من أهم هذه اللجان وكان كبار الشعراء من أمثال حسين السيد ومرسى جميل عزيز وعبد الفتاح مصطفى ومأمون الشناوى وعبد الوهاب محمد لا يمر يوم دون تواجدهم فى الاذاعة يسألون عن مصنفاتهم الغنائية التى تمت إجازتها من لجان النصوص الموحدة وكذلك لجان الاستماع والمطربون الذين تم ترشيحهم لهذه الأعمال حيث كانت شبكات الاذاعة (البرنامج العام وصوت العرب والشرق الأوسط والشباب والرياضة) هى الجهات التى تجمع حولها كل المستمعين فى الوطن العربى وكانت الاذاعة يصل ارسالها إلى كافة الأقطار الشقيقة وكانت إذاعة صوت العرب بالذات تبعث بمراسليها الذين يغطون الأعمال الرمضانية فى البلاد العربية لتنقلها الاذاعة المصرية من كل قطر عربى، أما الأغانى والبرامج الدينية فكان لها نصيب الأسد من هذه الأعمال كافة تقديراً للشهر الكريم وكان كل شاعر أو ملحن يجاهد من أجل أن يكون له عمل غنائى أو ديني يفخر به لشهر رمضان ونفس الشىء بالنسبة لكبار المطربين من أمثال عبد الحليم حافظ وفايزة أحمد وشادية ونجاة الصغيرة وشهرزاد ومحمد رشدى ومحمد العزبى ومحرم فؤاد الذين كانوا يعتبرون أن اذاعة عمل لهم فى رمضان بمثابة تاج يضعونه فوق رؤوسهم طوال العام، ومن هنا كان الشعراء والمطربون والملحنون يبدعون أعمالهم لتشمل شهر رمضان كله فهذا ينتج أغمية عن بداية شهر رمضان مثل «رمضان جانا» لعبد المطلب، و»مرحب شهر الصوم» لعبد العزيز محمود، وحتى الثلاثى المرح لم يتخلف فى هذا الزمن عن المشاركة بأغنيه له تنتجها الاذاعة «سبحة رمضان» كما أسهمت شويكار وفؤاد المهمنس بعملهما الرائع الذى لحنه الموسيقار محمد الموجى «الراجل ده هيجننى .. يجى رمضان وخناقه يزيد عايز طباخة سكة حديد» والتى كانت من أشهر الأعمال الرمضانية فى هذا الوقت، إلى جانب المجموعة التى تشارك بعديد من الأعمال مثل «أهو جه يا ولاد» إلى جانب سهرات المنوعات التى كانت تذاع على الهواء مباشرة وينقلها التليفزيون يشارك فيها كبار النجوم المصريون والعرب، وهذا ما يعود بنا إلى الوراء أكثر من أربعين عاماً حين قدم لنا الشاعر الكبير عبد الفتاح مصطفى الذى اشتهر بأعماله الدينية المتميزة مع زميليه كبار كتاب الأعمال الدينية من أمثال أمينة الصاوى رحمها الله، والشاعر وكاتب السيناريو المبدع عبد السلام أمين صاحب مسلسل عمر بن عبد العزيز ففاجأنا فى هذا الوقت عبد الفتاح مصطفى برائعته الدينية «تم البدر بدرى .. والايام بتجرى .. والله لسة بدرى والله .. يا شهر الصيام» التى قدمها خصيصاً لوجدى الحكيم مراقب الموسيقى والغناء ليقرأها ويعرضها على لجنة النصوص للمشاركة بها فى هذا الشهر الكريم وكان وجدى الحكيم يعرف جيدا مكانة عبد الفتاح مصطفى كرائد من رواد الأغنية الدينية فلما قرأها عدة مرات اقترح على الفنانة القديرة شريفة فاضل غنائها خاصة وان فكرتها الرائعة تدور حول وداع شهر رمضان وكيف مرت الأيام بسرعة وانتهى هذا الشهر الفضيل وقد كان عبد الفتاح مصطفى مبدعاً فى كتابتها ورشح لتلحينها الموسيقار الكبيرعبد العظيم محمد الذى انبهر أيضاً بهذا الكلام وعكف ببيته بالعباسية لمدة يومين ليفاجئنا بهذا اللحن الرائع وما أن دعا وجدى الحكيم الفنانة شريفة فاضل لحفظه تمهيداً لاجراء البروفات فى استوديوهات الاذاعة لتسجيل هذا اللحن بصوتها وفتح وجدى الحكيم كعادته استوديو46 وبعد عدة بروفات داخل الاستوديو كانت شريفة فاضل فى قمة فرحتها بهذا العمل الذى انبهر به أيضاً عبد الفتاح مصطفى عندما دعاه وجدى الحكيم لحضور البروفات والاستماع إلى صوت شريفة فاضل وكلماته الجديدة التى كتبها فى وداع هذا الشهر الكريم وجلس عبد الفتاح ليستمع إلى مطلع الأغنية بصوت شريفة فاضل والذى يقول: «تم البدر بدرى .. والايام بتجرى .. والله لسة بدرى والله .. يا شهر الصيام» ولم يغادر عبد الفتاح مصطفى والذى جلس إلى جوار وجدى الحكيم ومهندس الصوت فى كابينة الاستوديو حتى استمع إلى الكوبليه الأول الذى يقول: «حيانا هلالك .. ردينا التحية .. سهانا جمالك .. بالطلعة البهية .. بفرحة سلامك.. والا وداع صيامك.. والله لسة بدرى والله.. يا شهر الصيام .. «يا ضيف وقته غالى .. وخطوة عزيزة .. حبك حب عالى .. فى الروح والغريزة .. أيامك قلبلة .. والشوق مش قليل .. والغيبة طويلة.. ع الصبر الجميل.. لسة بدرى حبة .. يتملا الأحبة» وحتى نهاية الأغنية، شكر وجدى على اهتمامه بهذه الأغنية التى كانت ولا تزال من أشهر أغانى وداع شهر رمضان لتبدأ الاذاعة فى اذاعتها بعد انتهاء النصف الأول من شهر رمضان وتذكر الناس ليس - فى مصر وحدها بل على مستوى الوطن العربى كله - بشهر رمضان الذى انتهى بسرعة وقد استطاع الموسيقار القدير عبد العظيم محمد أن يضع لحن الأغنية رغم أنه يودع فيه شهر رمضان إلا أن قدرته كملحن استطاع بعبقريته أن يجعل من الوداع بهجة وفرحة وهذا ما لم يستطع أحد غيره أن يفعل ذلك وهو ما أجمع عليه النقاد فى ذلك الوقت فقد كان عبد العظيم محمد رحمه الله ملحناً متميزاً ولكنه لا يبحث عن الشهرة وقد ظلمه الاعلام حينئذ وكلنا الذين عاصرناه نعلم أنه مبدعاً كبيراً صاحب جملة موسيقية متجددة وهذا ما ظهر فى الجملة الشهيرة التى أبدعها فى مطلع الأغنية «والله لسة بدرى يا شهر الصيام» والتى لازلت – رغم مرور كل هذه السنين – تعيش فى وجدان الشعب المصرى والعربى حتى الآن. أما حكاية شريفة فاضل فأذكر أنها رفضت تقاضى اى أجر عن هذه الأغنية رغم أغانيها القليلة فى الإذاعة مكتفية بما قالته لوجدى الحكيم فى ذلك الوقت: «أنا يكفينى أن تكون لى أغنية دينية شهيرة يرددها الناس فى هذا الشهر الكريم»، أما عبد الفتاح مصطفى – وكنت قريباً منه – كان أجره فى ذلك الوقت كشاعر فئة (أ) خمسة عشرة جنيهاً فقط، وهكذا ما كان يفعله جيل الرواد من كبار الملحنين والمؤلفين والمطربين الذين كانوا يتسابقون فى تسجيل أعمالهم الدينية والوطنية دون تقاضى أى اجور اسهاماً منهم مع الاذاعة التى صنعت منهم نجوماً كبار فلا أقل من أن يتبرعوا بأجورهم رداً للجميل الذى قدمته لهم اذاعتهم العريقة.. وفى النهاية أقول ما يقوله كل صائم بعد أيام والله لسة بدرى ياشهر الصيام.