قبل نحو عشر سنوات نشرت لي جريدة الأهرام مقالا بعنوان جائزة البابا جائزة لمصر, وكان تعليقا علي فوز قداسة البابا شنودة الثالث بجائزة القذافي العالمية لحقوق الإنسان في أولي دوراتها بإجماع آراء كل أعضاء مجلس الأمناء المكون من مجموعة من كبار المفكرين العرب والأجانب برئاسة المناضل الكبير أحمد بن بيلا رئيس الجمهورية الجزائرية الأسبق, وكنت وما زلت أثق أن أية جائزة مرموقة يحصل عليها رمز من رموز الأمة تعد جائزة للوطن, وإضافة لافتة تحسب له كما تحسب لمن نالها, ولابد أنه حازها نظير جهد عظيم وتميز كبير وإسهام فريد في مجاله, بما حقق له مكانة مرموقة تستأهل التقدير. فوجئت باتصال هاتفي من قداسة الأنبا يؤانس سكرتير البابا ينقل إلي رغبة البابا في مرافقته إلي طرابلس لاستلام الجائزة, فوافقت مرحبا وسعيدا بصحبة رجل من أندر الرجال الذين سمعت بهم وقرأت عنهم وعن آرائهم وحكمتهم. في يوم السفر وفي قاعة كبار الزوار سأل عني وطلب التعرف إلي, وأكرمني بتحية أثلجت صدري, وقال: لقد طلبت كل ما يعرفني بك من حيث الكتب والإصدارات والأنشطة الثقافية, شكرته الشكر الجزيل وتراجعت لأتركه للرفقاء وللصحافة ووسائل الإعلام فأوقفني قائلا: لقد طلبت منهم أن يكون مقعدك إلي جواري في الطائرة. ارتبكت وهززت رأسي شكرا لأني لم أجد الكلمات الملائمة. في الطائرة تبادلنا الحديث لأعرف ما لم أكن أعرف علي نحو دقيق. بدأت حديثي قائلا: كيف توفرت في شخصيتك كل هذه السمات التي قلما تجتمع في شخص واحد مهما كان له من رسوخ العقيدة, فأنت قمة في التسامح وفي الانتماء و تحرص علي حماية الوطن من عواصف الفتن وأنت سياسي من طراز رفيع وكاتب وأديب وشاعر ومفكر ورجل دولة وعالم ومحب للبشر وتسعي بكل السبل للتخفيف عنهم ؟.. قال بمنتهي التواضع:أولا أنا في الثمانين وقد أعددت نفسي جيدا في نصفها الأول والنصف الثاني حاولت فيه تطبيق ما تعلمته وما زلت أتعلم حتي نهاية عمري. ثانيا: أنا لا أري كل ما تراه. إنني أحاول فقط أن أكون كما أمرني الرب, والكل يحاول ذلك ومنهم من ينجح ومنهم من يخفق ومنهم أيضا من يبلغ منتصف الطريق. وأفضل ما يجب أن يتميز به الإنسان هو أن يلتمس العذر للمخطئ لأنه لم يخلق نفسه, وأنت لن تكون متسامحا دون أن يسبق ذلك تقدير للعجز الإنساني, كما أن الكثيرين يتجاهلون لغة الرب فقد يأخذ منك الآن شيئا ليعطيك في الوقت المناسب أشياء فلماذا تغضب ؟.ثم ما لبث الرجل الملهم أن أسمعني آيات من القرآن الكريم وبعضا من أحاديث المصطفي عليه السلام وأقوال مأثورة لعمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما, وانتقل الحديث إلي الإمام الغزالي وما قاله في تهافت الفلاسفة ثم ابن رشد في كتابه تهافت التهافت وجلال الحضارة الإسلامية, وتجاسرت فناقشته في آراء القديس أوغسطين وتوما الإكويني, وكانت مفاجأة لي ذكره الكثير من أقوال واصل بن عطاء وابن عطاء الله السكندري وبعض أشعار بن عربي, إلي أن قال: أنت أديب روائي فلنقترب من ديوان العرب وهو الشعر وأفضل ما نبدأ به شعر امرؤ القيس وطرفة بن العبد.. وكانت اختياراته فاتنة وذكرت له بعضا من أبيات المتنبي وكان يكمل بعدي قصائده وكذلك فعلنا بالمعري, ودهشت لحفظه أبياتا لعمر بن أبي ربيعة وأبي نواس, ثم طلبت إليه أن يسمعني بعضا من أشعاره إذا كان حافظا لها, فأنشد بعضهاوأغلبها يفيض بالحكمة والفلسفة والمحبة والرؤية الإنسانية الشاملة في صياغة عذبة وتصوير بديع. وظلت أسئلتي في السياسة مكبوحة لأنه أبحر في محيط الشعر إلي أن انتهزت فرصة صمت قصيرة وقلت له: لقد أثقلت عليك, فوضع كفه علي ركبتي وربت عليها. سألته علي الفور: ما السر في موقف السادات ومبارك منك؟! قال بعد لحظات: الرئيس السادات غفر الله له رجل وطني لا يجب ألا ننسي له العبور واستعادة سيناء, ولكن الخبثاء نقلوا إليه عدم رضاي عن كامب ديفيد, وقد كان ينظر إليها علي أنها من أهم أحداث التاريخ ومن يمسها علي أي نحو ولو بنصف تقدير يغضب, ولم يرد ذكرها علي لساني, لكني فقط صرحت بعدها بألا يذهب الأقباط إلي القدس وهي محتلة فسعي البعض بالوقيعة إذ فسروا تلك العبارة له علي أنني غير راض عن المعاهدة, سألته ورأيك العميق, قال: أقل مما يجب, سألته: ومبارك. قال: الحكام للأسف محاطون بمن يعبثون, ولا أدري كيف يصدق أنني وراء غضب الأقباط في المهجر خاصة عندما دعا بعضهم لعدم استقباله عندما يزور واشنطن. عندئذ فوجئنا أننا وصلنا طرابلس فابتسم وقال وعيناه تلمعان ببريق المحبة الخالصة: للحديث بقية وعندما أخبرني ولدي بأن الله اختاره إلي جواره صرخت في الهاتف ثم تماسكت وبدأت أتذكر عشرات الأقوال والأفعال الرائعة لرجل مثال للقدوة التي يجب أن يحتذيها أصحاب الضمائر لأنه نموذج فريد للانتماء والمحبة والرأي السديد, وحصن حصين للوحدة الوطنية ومقاومة الفتن, ومنارة للتسامح وصورة مميزة للمثقف والعالم ورجل الدين المستنير, ومصر في هذه المرحلة بالذات بحاجة إلي من كانوا مثله وأظن أن رحيله الآن لابد أن يحمل الكثير من الإشارات. المزيد من مقالات فؤاد قنديل