لم يعد الوقت فى صالح الفرقاء الليبيين فى الاستغراق فى تفاصيل الحل السياسى الذى يسعى إليه مبعوث الأممالمتحدة ليون, بينما التحديات تحدق بليبيا وتهدد بتفتيتها. وعلى خلاف الأوضاع المتأزمة والمشتعلة فى دول الربيع العربى الأخرى مثل العراق واليمن وسوريا, فإن الحالة الليبية شهدت خفوتا نسبيا على المسار العسكرى, وتراجع الاقتتال بين أطراف الأزمة, حيث ساهمت الضغوط الدولية والإقليمية فى ضرورة البحث عن حل سياسى, لكن فى المقابل تصاعدت أخطار الإرهاب والتنظيمات المتطرفة التى استغلت حالة الفراغ وتعثر الحل السياسى وغياب مؤسسات الدولة الليبية المركزية وتغلغلت فى العديد من المدن مثل سرت ودرنة. وبالرغم من أن توجه الليبيين نحو الحوار والمفاوضات والاستمرار يمثل عاملا إيجابيا فى حد ذاته, ويؤكد إدراك الجميع بحتمية الحل السياسى وفشل الحل العسكرى بعد أربع سنوات على ثورة 17 فبراير وسقوط القذافى, إلا أن جولات الحوار السابقة ومسودات الحل السياسى التى طرحت, وتم تعديلها أكثر من مرة وآخرها المسودة التى قدمت باجتماع الصخيرات بالمغرب الأسبوع الماضى, عكست بشكل كبير حدة الفجوة وعدم الثقة بين أطراف الأزمة, وصعوبات التوصل إلى صيغة توافقية تمثل خريطة طريق واضحة لمستقبل ليبيا وتخرج البلاد من حالة اللادولة. فقد تضمنت المسودة الخامسة والمعدلة خريطة طريق للمرحلة الانتقالية تشمل تشكيل حكومة وفاق وطنى محايدة, والاعتراف ببرلمان طبرق باعتباره الجهة التشريعية الوحيدة والشرعية فى البلاد, وإنشاء مجلس أعلى للدولة ومجالس للبلديات, وتشكيل مجلس رئاسى من شخصيات مستقلة, ونزع أسلحة المليشيات وتشكيل قوات مسلحة موحدة وانسحاب الجماعات المسلحة من المنشآت النفطية والمطارات والمنشآت الأخرى بعد توقيع الاتفاق, وتشكيل لجنة لإنجاز الدستور. وتوضح قراءة مضمون المسودة أن بها العديد من المزايا والإيجابيات, أولها أنها تستهدف إنشاء مؤسسات شرعية موحدة فى البلاد تنهى حالة الانقسام والاستقطاب ما بين حكومتين وبرلمانيين ولكل منهما قواته العسكرية ومليشياته وهو أمر غير مسبوق, كرسه حالة التوازن العسكرى بين الطرفين, وإخفاق كل منهما فى حسم الصراع لصالحه. وثانيها أنها تضع قواعد واضحة لجمع أسلحة المليشيات المنتشرة فى كل مدن ليبيا, ويتجاوز تعدادها الآلاف, وكل منه يفرض منطقه وقانونه على المنطقة التى يسيطر عليها, وثالثها أنها تضع جدولا زمنيا محددا لاستكمال المرحلة الانتقالية خاصة كتابة الدستور وإجراء الانتخابات البرلمانية والرئاسية, ورابعها اختيار شخصيات محايدة ليست من أطراف الأزمة لإدارة المرحلة الانتقالية, بما يقلل نسبيا الصراع على المناصب من جانب الأطراف الحالية. ورغم أن ملامح هذا الحل السياسى تعتبر مقبولة نسبيا, إلا أن العقبة الحقيقية أمام إنجازه تظل فى عقلية ومنهج أطراف الأزمة وتمسك كل منهما باحتكار الشرعية ورفض الطرف الآخر, ودخوله المفاوضات وهدفه الحصول على أكبر مكاسب دون تقديم تنازلات حقيقية وإعلاء مصلحة الوطن العليا, وبالتالى قبل التوصل إلى صيغة اتفاق نهائى بينهما ينبغى أولا تحقيق المصالحة الوطنية الشاملة بين جميع الليبيين وإعادة اللحمة إلى النسيج المجتمعى وتصفية النفوس ونزع الكراهية وتنحية الخلافات والمصالح الشخصية والجانبية مقابل الاتفاق على بناء الدولة الحديثة المدنية الديمقراطية والمتقدمة سياسيا واقتصاديا, خاصة أن ليبيا لا تشهد تلك الاختلافات العرقية والدينية والطائفية واللغوية التى تشهدها العديد من الدول الأخرى, فهى من أكثر المجتمعات تجانسا دينيا وعرقيا. وفى ظل دولة عاشت لعقود تحت حكم النظام الجماهيرى بدون مؤسسات حقيقية مركزية إدارية وسياسية واقتصادية, فقد غلبت القبلية على الثقافة الليبية, وهو ما يمثل تحدا كبيرا أمام بناء المؤسسات العصرية مثل الرئاسة والبرلمان والأجهزة الأمنية الموحدة, وهذا الأمر يحتاج لتكريس فكر دولة القانون والمؤسسات, ولذلك بدون تحقيق المصالحة الوطنية وتحقق التوافق حول خريطة الطريق فإن الحل السياسى المطروح, سوف يكون هشا وقابلا للانهيار فى أية لحظة, حتى ولو تم فرضه من قبل المجتمع الدولى, فى ظل غياب المعالجة الجذرية لألغام المشهد الليبى مثل انتشار المليشيات المسلحة, وهيمنة ثقافة الإقصاء بين المكونات المختلفة للمجتمع, وعدم إنجاز العدالة الانتقالية التى تحاسب كل من تلوثت يداه بالدماء من أى طرف وتستوعب الباقين فى العملية السياسية. الحل السياسى المطروح يمثل فرصة أخيرة لإنقاذ ليبيا والحفاظ على وحدتها وتماسكها ويدفع فى اتجاه بناء الدولة وتوظيف موارد البلاد النفطية الهائلة لتحقيق التنمية الشاملة, ومواجهة مشكلة البطالة وايجاد فرص عمل لأفراد المليشيات المسلحة, بما يحقق أهداف ثورة 17 فبراير العظيمة فى العيش والحرية والكرامة, كما أنه يسهم فى بناء أجهزة أمنية قوية قادرة على حماية حدود البلاد, وفرض الأمن والقانون وتحقيق الاستقرار, والأهم محاربة واجتثاث الجماعات والتنظيمات الإرهابية المتشددة مثل داعش وغيرها, والتى يمتد خطرها إلى دول الجوار مثل مصر والجزائر. وأخيرا يصبح التساؤل: هل يوظف الليبيون هذه الفرصة ويتفقون على حل توافقى لإنقاذ بلدهم, أم يتشبثون بمواقفهم ورؤاهم بما يعنى استمرار دوامة العنف والتشرذم والاقتتال ومخاطر الإرهاب والتفتيت, وهو ما يقود ليبيا إلى المصير المجهول؟, الأمر المؤكد أن الحل والقرار الآن بأيدى الليبيين وحدهم وليس بأيدى غيرهم. لمزيد من مقالات د . أحمد سيد أحمد