يهل علينا شهر رمضان الكريم هذا العام بعد أيام بنفحاته المعطرة ولياليه الساهرة وفضائله على الإنسان التى لا تعد ولا تحصى، هذا الشهر الذى تتجمع فيه الأسرة فى بيت العائلة الكبير أول أيامه وتتعاظم فيه صلة الرحم بين الأقارب وتتوطد العلاقة بين المصريين وقد اشتهر الشهر الكريم بتميزه فى مصر عن كل البلاد الأخرى حيث يفضل المسلمون فى الأقطار العربية والاسلامية الحضور إلى القاهرة لقضاء هذا الشهر بين أقاربهم وأصدقائهم فى القاهرة والصعيد حيث يؤكدون فى غربتهم أن لرمضان مذاقاً خاصاً فى مصر ويحرصون على الحصول على أجازاتهم مع أول يوم فى رمضان ليكونوا بين أقاربهم حتى أيام عيد الفطر، حيث تعمر المساجد بالمصلين الذين يقضون صلاة التراويح والتهجد التى تمتد حتى آخر الليل ويتناولون بعدها السحور كثير منهم يحرص على قضاء بعض لياليه فى رحاب سيدنا الحسين ويستمعون إلى الابتهالات والموشحات الدينية التى تفجر فيهم مشاعر الايمان والرضا والتقرب إلى الله كما يذكرنا هذا الشهر الكريم فى يومه العاشر بذكرى انتصار الجيش المصرى وعبور جنودنا البواسل قناة السويس ممتطين زوارقهم المطاطية وحاملين أسلحتهم على أكتافهم واضعين أرواحهم على أكفهم مستمدين حماسهم من إيمانهم وصومهم فى شهر رمضان على يقين بأن الله سينصرهم فى هذا الشهر الكريم ليصلوا إلى الشاطئ الشرقى للقناة مرددين هتافات «الله أكبر .. الله أكبر» ويسجدون على رمالها الطاهرة شكراً لله الذى استجاب لهم ولكل المصريين.. ولا يمكن أن يحل هذا الشهر دون أن تذكر ابتهالات فضيلة الشيخ سيد النقشبندى وصوته التى نستمع إليها ليلاً ونهاراً طوال شهر رمضان وتسرى فى وجداننا أصداء هذا الصوت الملائكى الربانى الذى يستقر فى نفوسنا تاركاً آثاره الإيمانية الرحبة متطلعين إلى أن نسمعه عدة مرات والعجيب فى الأمر أننا مهما تكرر استماعنا لهذه الابتهالات الدينية للشيخ النقشبندى لا نمل أبداً بل كل مرة نسمعها ننصت إليها بحنين كأننا نستمع إليها لأول مرة، وهذه منحة من الله وهبها لهذا الشيخ القدير التى تشعر وأنت تسمعه أنه ليس مجرد إنشاد بل تعبد فى حب الله، الأمر الذى لفت انتباه الرئيس محمد أنور السادات عندما استمع إليه وطلب من المسئولين فى الاذاعة ضرورة الاستفادة من هذا الصوت الملائكى من خلال التسجيل له فى حياته قبل أن يتقدم به العمر. ولابتهالات الشيخ النقشبندى حكاية عاصرتها من خلال علاقتى الوثيقة بالاعلامى الكبير وجدى الحكيم عندما كان مراقباً عاماً للموسيقى والغناء ويرجع له الفضل فى تسجيل أناشيد وأغانى أكتوبر1973، وكان فى ذلك الوقت الاعلامى الكبير بابا شارو رئيساً للإذاعة وكنت اتابع مع وجدى الحكيم تسجيلات أكنوبر منذ اليوم الأول للنصر، وعلمت منه حكاية النقشبندى وكيف تم التسجيل له بناءً على طلب الرئيس السادات العاشق للانشاد الدينى وبالذات لصوت الشيخ النقشبندى، وشاءت الظروف أن يكون وجدى الحكيم أحد المدعوين فى حفل خطوبة إبنة الرئيس كمسئول فى الاذاعة المصرية ووجود أيضاً بليغ فى هذا الحفل، وإذا بالرئيس السادات ينادى على بليغ ويقول له : «أنا عايز اسمعك مع النقشبندى» وكلف وجدى الحكيم بفتح استوديو الاذاعة للتسجيل لهما، فرحب بليغ بهذا التكليف من جانب الرئيس له، وعندما حاول وجدى الحكيم تنفيذ رغبة الرئيس التقى بالنقشبندى وأبلغه بذلك ولكن النقشبندى تردد فى بداية الأمر خشية أن تتعارض ابتهالاته مع الالحان العادية التى يقدمها بليغ بايقاعاتها الموسيقية الغنائية، وابدى اعتذاره فى البداية لوجدى الحكيم معللاً لك بأنه يحتفظ لنفسه بمكانته كمبتهل دون الدخول فى مجال الغناء، ولما علم وجدى بهذا الرفض من جانب النقشبندى لم يبلغ صديقه بليغ بذلك حتى لا يغضب بليغ ويتخذ موقفا من جانبه، وحاول بذكائه أن يقنع النقشبندى أن بليغ قادر على تنفيذ ما يدور فى قلبه بما لا يدخله فى مجال الالحان الغنائية وهو الملحن الوحيد القادر على ذلك وأن تخوف النقشبندى من ذلك ليس فى محله، فكرر له النقشبندى مقولته أننى أخشى أن تفسد الالحان الموسيقية حالة الخشوع التى أعيشها واتعمق فيها فى أدائى للابتهال، فعاد وجدى ليكرر له قوله : أثق تماما أن بليغ لديه القدرة الفائقة فى تحقيق حالة الخشوع أيضاً وأنه فى كثير من موسيقاه أستطاع أن يعبر عن الحالات الوجدانية المختلفة، فلم يكن أمام وجدى الحكيم لكى ينجح فى مهمته الاعلامية وتحقيق رغبة الرئيس إلا أن يتخذ خطوات فعلية فى ذلك الامر فحصل على كلمات ابتهال «مولاى يا مولاى» من الشاعر الكبير عبد الفتاح مصطفى وسلمها لبليغ ليعيش فيه بحالة وجدانية دينية دون التأثر بالألحان الغنائية حتى لا يرفضها النقشبندى، وجهز الاستوديو46 مع مهندس الصوت وطلب من النقشبندى الجلوس مع بليغ لمدة نصف ساعة فقط، فاذا اعجبه اللحن يشاور على ما يوحى بقبوله أو العكس، وتركهما وذهب إلى مكتبه ثم عاد بعذ نصف ساعة واذا به يجد النقشبندى مندمجاً فى الابتهال وطلب من بليغ تكراره مرة أخرى مشيراً إلى مهندس الصوت بالتسجيل مبدياً اعجابه الكبير بالموسيقى الدينية التى أبدعها بليغ الأمر الذى أسعد وجدى الحكيم وجلس يستمع اليهما مولاى إنى بابك قد بسطت يدى .. من لى ألوذ به إلاك يا سيدى؟ .. أقوم بالليل والأسحار ساهية .. أدعو وهمس دعائى .. بالدموع ندى .. بنور وجهك إنى عائد وجل .. ومن يعد بك لن يشقى إلى الأبد .. مهما لقيت من الدنيا وعارضها .. فأنت لى شغل عما يرى جسدى .. تحلو مرارة عيش رضاك .. وما أطيق سخطاً على عيش من الرغد .. من لى سواك.. ؟ ونجح وجدى فى مهمته التى كلفه بها الرئيس السادات وكانت بداية لأعمال وابتهالات أخرى بين بليغ والنقشبندى منها : أشرق المعصوم، أقول أمتى، أى سلوى وعزاء، رباه يا من أناجى، دار الأرقم، إخوة الحق، ذكرى بدر، أنغام الروح، أيها الساهر، يا ليلة فى الدهر (ليلة القدر) ورحبت كل الشبكات الاذاعية بهذا الانجاز الذى حققه بليغ وعبد الفتاح مصطفى والنقشبندى وطلبت نسخا من هذه التسجيلات الرائعة لتذاع فى جميع المحطات والفضائيات إلى جانب المحطات التليفزيونية وأصبحت من الأعمال الدينية المتميزة التى يقتنيها التليفزيون والاذاعة، وإذا كان الرئيس السادات رحمه الله سبباً فى هذه ظهور الابتهالات للنور إلا أن الانجاز الاكبر كان للمستمعين والمشاهدين المصريين والعرب الذين تمتلئ قلوبهم خشوعاً فى كل مرة تذاع فيها وأطلقوا على النقشبندى كروان الانشاد الدينى وبالذات العالم والمفكر الاسلامى د.مصطفى محمود الذى قال عنه أيضاً أن صوته مثل النور الكريم الفريد الذى لم يصل اليه أحد .. هذه الحكاية قد مضى عليها أكثر من أربعين عاماً ورغم مرور هذه السنوات الطويلة لاتزال وستظل تعيش فى وجدان المستمع المصرى والعربى وتتناقلها الأجيال جيل بعد جيل لكونها من الأعمال التى تمكث فى وجدان المواطنين وتمس القلوب وتحرك المشاعر وتحقق التواصل بين الانسان وربه عندما يناجيه مولاى يا مولاى انى ببابك قد بسطت يدى .. خاصة فى شهر رمضان الكريم.