لم يبلغ الثامنة بعد، ترجوه أمه لكى يحفظ جدول الضرب.. يسألها بضيق: لماذا يطلقون علي جدول الضرب هذا الاسم؟ فتجيبه: لأن الأعداد تُضرب في بعضها، ومن لا يحفظه يُضرب أيضا. رد وهو يقفز عليها ويقبلها: فلنسمِه إذن جدول الحب؛ كي تحب الأعداد بعضها، ومن يحفظه تحبه أمه أيضا. المعذبون في السماء والأرض لاتبيع حريتها لا باسم الحب أو الزواج.. لكنها تزوجت من أجل ولدها. فرحت عندما أحست به ينمو في أحشائها, وحزنت لأنه سيقيدها بالأرض ولن تعرف روحها السكينة بعد الآن. درويش يجلس منها مجلس المُعلم.. يأمرها أن ترتل سورا كاملة من القرآن. تقرأ.. وعند الانتهاء، تفزع ليد قوية تسحبها، فتستيقظ علي صوت أمها: أفيقي، لماذا تقرئين القرآن بصوت مرتفع وأنتِ نائمة، ما بك ؟ ترد: لا شيء، لا شيء. تسرع لتشرب كوبا من الماء وهي تتصبب عرقا.. تنظر من شرفتها المطلة علي الشارع. تلمحه وهو ينصرف ململما عباءته البيضاء. فجوة يلبس عباءة خضراء، وبيده مسبحة معلقة بين السماء والأرض، حباتها أقمار مضيئة، مكتوب فيها اسم رب العزة. يُقرئها السلام بصوت تهتز له الأرض. تموت رعبا ولا ترد عليه. يخرج صوت رجل من جوفها يرد عليه السلام. نوافذ مغلقة تعلقت برقبته في دلال قائلة: أريد السفر معك. رد متضايقا: لماذا؟ قالت: لأري البحر فأنا لم أره من قبل. رد بفتور: لم يعد البحر كما في السابق لقد أصبح مليئا بقاذورات البشر. قالت مبتسمة: أريد الخروج معك، لأري الناس والطرقات. رد مبتعدا عنها: لقد تغير الناس واختنقت الشوارع بهم. جالت ببصرها حائرة، ثم قالت: أريد أن أفتح نافذة لأستنشق الهواء. رد بهدوء: صدقيني، لم يعد الهواء كما كان. كان موقنًا أنها لم تصدق كلمة مما قال.. غاب يومين في السفر، وبعد عودته، وجدها متشبثة بقضبان النافذة وقد فارقت الحياة. حديث الصمت صمتها لم يكن بالشيء الغريب وسط صخبهم الدائم. لكن الغريب في الأمر أنها كلما همت بالكلام يسقطون جميعًا في بئر من السكون. مجرد أحلام كثيرا ما تراه في منامها وقد تزوج بأخرى. تصرخ. يوقظها. تضمه باكية. يحاول تهدئتها. يقول: نفس الحلم؟ ترد: نعم.. يبتسم قائلا: لا تخافي مجرد أحلام. نامي، نامي. هذه المرة، رأته غارقًا في دمائه، وسط صحراء لا حدود لها. استيقظت فزعة. أفاق. سألها: ماذا رأيتِ؟ ابتسمت قائلة: لا شيء مجرد أحلام. نَم، نَم. الفراشات جمع النجوم بين يديه. نثرها بين ثنايا دفتره القديم، ثم وضعه بين رفوف الكتب التي اصطفت في زاوية من زوايا حجرته الضيقة. جلس بجوارها مغمض العينين فخرجت النجوم كفراشات مضيئة حاملة أبيات أشعاره لحبيبته الراقدة بأسفل أشجار الليمون. الرقص فوق السماء السابعة أفزعه صوت زجاج نافذته الذي تهشم علي أثر الرياح التي دخلت لحجرته بدون استئذان، بينما كان يجمع شظايا الزجاج رأي طيف امرأة ترقص أسفل الأشجار، تتطاير جدائل شعرها لكل مكان، ينزلق جسدها الغض مع الهواء فتخرج الرياح من صدرها لتحمل أوراق الشجر علي الطيران في شكل حلزوني، تغتسل بالمطر.. ثم تختفى بين الأشجار. أيقن أن ما يراه سحر لكنه هرول سريعا خلفها. عند البحر كانت تقف.. اقترب منها فغرق في عينيها الواسعتين كبحر بلا شواطئ، أجابت صمته بصمت، ثم غفي الوقت لحظات طويلة. لمس أناملها.. رقص معها بلا ارتواء. شعر بجسدها يضيء ثم يختطفها الموج للأعماق. ناداها، لم تجب.. ظل ساهما وهو يرى نورا يخرج من عمق البحر قاصدا السماء. حائل أمطرت ليلة البارحة بغزارة.. تجمع ماء المطر في حفر صغيرة أخذت تلتحم بينما ظل العاشق تائها بين مداخل الصحراء، يبحث عنها، لكنها تسربت من بين يديه واختفت. حاول أن يعود أدراجه بعد أن أعياه البحث. كانت مداخل الصحراء جميعها قد تحولت إلى بحر واحد كبير. وطن أضعت حياتي في هذه البراري ولم يتبق شيء مني.. مجموعة من النجوم الغريبة ملكت سمائي ليالِىَ طويلة.. خطوات قليلة أخرى وسأتوقف هنا؛ لأبحث عن نجومي التي هجرت أماكنها. طيور النورس تجمعت أمامي في سرب واحد كبير، مزمعة الهجرة إلى وطن بديل. تبدو فكرة وجود وطن آخر مريحة جدا الآن. السر دعت القمر سراً إلى حجرتها؛ دخل من نافذة مكسور زجاجها، تسرب من بين القضبان الحديدية. ظل يؤنس وحدتها ليالىَ طوالا. بدا الأمر ممتعا بالنسبة لها، فسمحت للهواء أن يدخل أيضاً فيداعب شعرها الأسود، يطيّرهُ لما خلف القضبان.. عندئذ تنفست الواحة كلها رائحة عشقها الجديد.