لا يوجد جديد: القصة متكررة، و تكاد تحدث كل يوم، دون أن يعترض أحد، ودون أن تثير ضجة أو غضب، شأنها شأن جرائم كثيرة ترتكب فى حق الوطن. تبدأ القصة أو الجريمة عندما تقرر «الثروة الشرهة» أن تستولى على أحد المبانى القديمة ذات الطراز المعمارى المتميز، من أجل هدمه، لإقامة «خوازيقها» الخرسانية القبيحة، سعيا وراء ثروات إضافية، تأتى من هدم التاريخ، وبيعه انقاضا. وتشهد مدينة الاسماعيلية، هذه الايام هجوما ضاريا للاستيلاء علي عدد من المباني القديمة الجميلة، التي منحت مدن القناة، طابعا معماريا خاصا، وأحدث هذه الجرائم تجري وقائعها هذه الأيام، فى حى الإفرنج الشهير، حيث شارع البلدية والجيش، والهدف أحد المبانى ذو الطراز المعمارى الخاص، وهو طراز تميزت به مدن إقليم قناة السويس، والدول الساحلية فى حوض البحر المتوسط، ويطلق عليه اسم «عمارة المتوسط». وتشارك مدن القناة العالم فى امتلاك هذا التراث المعمارى، الذى يعبر عن عملية تلاقح حضارى وثقافى وانسانى، شهدته أرض مصر، فى مرحلة مهمة من تاريخها المعاصر، تزامنت مع بدء حفر قناة السويس. هذه الثروة المعمارية الفريدة لم يتبق منها سوى القليل، بعد أن امتدت يد الجهل و الطمع لهدم التاريخ: شاهدا ورمزا وماضيا وهوية و جمالا ، فى مقابل تشييد «المسخ». الثروة و المحليات يد واحدة: محافظ الاسماعيلية ياسين طاهر كان قد صرح منذ عدة أيام بأنه لا نية للتراجع عن تنفيذ القرار الذى أصدره فى وقت سابق بشأن وقف إنشاء الابراج السكنية، وعدم الموافقة على هدم المبانى ذات الطابع الأثرى من أجل الحفاظ على الطابع المعمارى للمدينة. تصريح المحافظ يمنح بعض الطمأنينة، ولكنه لا يكفى لتبديد المخاوف، و لا يشكل رادعا حقيقيا و ضمانا للاستمرار، فى حالة تحالف الثروة و المحليات لتنفيذ قرارات إدارية يتم إصدارها حسب الطلب.
عندما تحدثت إلى الدكتور أشرف المقدم رئيس قسم العمارة والتخطيط العمرانى بجامعة بورسعيد قال فى حسم: ليست بالقوانين وحدها تحيا الأمم، فلابد من الوعى و الشعور بالانتماء حتى نحافظ على التاريخ، لأن من يبيع التاريخ يبيع الجغرافيا، والحفاظ على التراث الحضارى و التاريخى يحتاج إلى العمل على ثلاثة محاور، الأول: تشريعى لتعديل القوانين حتى تصبح أكثر دقة وصرامة، والمحور الثانى ثقافى و يتعلق بنشر الوعى الضرورى بأهمية الحفاظ على التراث فى كافة أشكاله، بخاصة المعمارى. أما المحور الثالث فيتعلق بالاستغلال الأمثل لهذا التراث. ويضيف الدكتور أشرف المقدم أن القانون الحالى ينص فى إحدى مواده على تشكيل لجنة بكل محافظة، مكونة من سبعة أفراد، باسم لجنة الحفاظ على التراث، تقتصر مهمتها على حصر المنشآت الأثرية، وتقوم برفع نتائج الحصر إلى اللجنة العليا فى الجهاز القومى للتنسيق الحضارى. ويختتم الدكتور أشرف المقدم حديثه قائلا: إن وجود مثال حى من التاريخ هو جزء من وجود الأمة. أين مبدأ المصلحة العامة؟ إن القضية تطرح أسئلة عديدة: لماذا تترك الدولة هذه الثروة المعمارية الفريدة تخضع لجشع وطمع الملاك و المشترين و القاطنين؟ ولماذا لا تتدخل بجدية وحسم للحفاظ على ما تبقى من هذه الثروة و الإرث الحضارى؟ ولماذا تترك يد المحليات واللجان الورقية تقرر مصير هذه المبانى، وفقا لقرارات إدارية لا تقيم اعتبارا لأى قيمة تاريخية أو جمالية؟! لماذا لا تنتقل ملكية هذه المبانى للدولة، وفقا لمبدأ المصلحة العامة، مع التعويض العادل للجميع، وتقوم الدولة باستغلال هذه المبانى كمتاحف صغيرة، أو معارض فنية، أو معامل صغيرة لتعليم الفنون؟! إن الحفاظ على هذا التراث الخاص، له أكثر من فائدة و معنى، فهو يظل شاهدا على تقدير المصريين لتراث وثقافة الشعوب الأخرى، التى عاشت فى مصر عقودا طويلة، فأثرت وتأثرت، ورحلت بعد أن تركت من روحها و ثقافاتها و حضاراتها. وأن مصر التى سوف تفتتح قناة السويس الثانية فى أغسطس القادم، فى اسهام إنسانى وحضارى جديد للعالم، وفى خدمة للإنسانية، تقدر التراث الانساني و تحافظ عليه، بما يحمله من رسالة حضارية، وإنها حريصة على أن تحتفظ على أرضها بكل عطاء، وتدعو العالم للحضور والعمل، ليساهم فى بنائها وتنميتها. كفى المماليك الجدد ما هدموه! وفى النهاية لا أجد ما أقوله سوى العبارة البليغة التى أكدها الدكتور أشرف المقدم التى تقول: من يبيع التاريخ يبيع الجغرافيا، وهى عبارة جديرة بأن يتذكرها كل من يهمه الأمر، وأصحاب الضمائر الوطنية، حتى لا تحدث مثل هذه الجرائم مرة أخري. ليس المطلوب إنقاذ هذه المبانى فقط، ولكن كل ما هو على أرض مصر يمثل قيمة تاريخية وحضارية و إنسانية وجمالية . وكفى «المماليك الجدد» ما نهبوه، وما هدموه، و ما مسخوه!