رغم القيود المفروضة فى الوقت الراهن على تحركها فى الاقليم، اضطُرت مصر في عهد السيسي للاستجابة للتحديات الأمنية عقب توليه الرئاسة مباشرة، وذلك بالنظر للفوضى الإقليمية الراهنة حيث تستمر الديناميكيات الإقليمية والمحلية فى استنزاف المنطقة، وفي ممارسة ضغوط كثيفة على الهياكل السياسية والاجتماعية الاقتصادية للعديد من دول الإقليم. وخلال هذه الفترة القصيرة أظهرت السياسية الإقليمية لمصر، القاهرة كطرف يكافح الإرهاب، ويتشبث بوحدة وتماسك الدول العربية، والحدود الثابتة والمستقرة، لا سيما بعد الحراك الثورى فى بداية العام 2011 والذى أدى إلى تحولات هيكلية فى بنية الدولة الوطنية وطبيعة الفواعل ما دون الدولة، والعلاقة الصراعية مابين تلك الاطراف والتى إنتهت فى بعض الاحيان لصالح الفواعل المسلحة فى سياق حرب استنزاف للدولة. فى مواجهة الأخطار المباشرة القادمة من الجوار المباشر لمصر مثل ليبيا وغزة (حيث التداخل الشديد مع الارهاب فى سيناء وفى الداخل المصرى) تبدو المقاربة المصرية إلى حد كبير ثمرة مخاوفها الداخلية بشأن الإرهاب وعدم الاستقرار، وعنف الإخوان (لاحظ فتوى نداء الكنانة يوم الاربعاء 27 مايو الماضى، والتى تعنى عمليا شرعنة العنف). وخارج الحدود المباشرة لمصر، وفى مواجهة الأخطار غير المباشرة: حيث تتمدد داعش فى العراقوسوريا، بالتزامن مع تعاظم نفوذ القاعدة (جبهة النصرة) فى سوريا، وتتزايد فيه المخاطر على لبنان والأردن، وتعزز القاعدة من نفوذها ومواقعها فى اليمن.. بشأن كل ذلك تبدو المقاربة المصرية أكثر تنوعا، وأقل تأثرا بالسياسة الداخلية. الأمن الإقليمي فى جوهرها، أظهرت السياسية الإقليمية لمصر، القاهرة فى صورة الطرف الذى ينأى بنفسه بعيدا عن الأجندة الطائفية (ثنائية السنة فى مواجهة الشيعة) التى يجرى توظيفها فى صراعات الشرق الأوسط حاليا وعلى نحو متزايد. وكطرف ينحاز للحلول والتسويات السياسية، ويرفض الاستمرار أو الانخراط فى المواجهات العسكرية... يهتم بالاستقرار الإقليمى أكثر من الولاءات الطائفية.. يقدم خطر تمدد داعش، على الانخراط فى سياسات التنافس الإقليمى.. يسعى لهندسة الوضع الراهن الذى يشكل بيئة حاضنة ومواتية لتمدد وانتعاش تنظيمات السلفية الجهادية.. مثلما يعتقد بعبثية خيار «الحسم العسكرى» لتسوية الصراعات فى ظل نظام إقليمى محطم.. يهتم ببناء منظومة للأمن الإقليمى ( القاهرة هى أول من دعت لإنشاء قوة عربية مشتركة) كون الشرق الأوسط هو من بين الأقاليم القليلة التى من دون أى مظهر للأمن الإقليمي، لمجابهة خطر الإرهاب، ولإحتواء الصراعات الإقليمية الداخلية. مخاطر متشابكة تخوض مؤسسات الدولة فى مصر صراعا ذو كثافة منخفضة، يتخذ نمطا من الحملات العسكرية تشتمل على: حروب شبه تقليدية تخوضها جيوش وأجهزة أمنية تنتمى إلى الدولة ضد مليشيات إرهابية - عصابية – مسلحة بشكل كامل، ولها تنظيم هرمى يعمل بين المدنيين، وتمزج ما بين تكتيكيات الإرهاب، وحرب العصابات. وفى ذات الوقت (ووفقا لمعطيات مؤشر الإرهاب الدولى عام 2014) لم يعد الخطر الحالى جراء النشاط الأرهابى، خطرا رئيسيا وفقط، بل هو الخطر الرئيسى على الأمن القومى لعدد من دول الإقليم..!! لاسيما مع زيادة تقدر ب 58% فى عدد تنظيمات السلفية الجهادية من أواخر عام 2010 وحتى 2014. فى حين تزايد عدد تلك العناصر- فى ذات الفترة - بأكثر من الضعف ؟! فى سياق إقليمى ومحلى كهذا، من الطبيعى أن تشتمل الإستجابات المصرية على استراتيجيات متنوعة: تراعى تنوع مسارح المواجهات، والتفاوت فى درجة الخطر الذى تمثله كل جبهة. وتتأثر بطبيعة التحالفات الإقليمية، وما تتيحه من فرص، أو تفرضه من قيود على التحرك المصرى. ولا تصطدم بأحد أهم أولويات السياسة الخارجية المصرية بعد ثورة الثلاثين من يونيو، والمتمثلة فى إعادة بناء التحالف المصرى - الخليجى. ناهيك عن أن تلك الاستراتيجيات ينبغى أن تستند إلى نسق فكرى استراتيجى يستوعب الديناميكيات المتعلقة بانتعاش وتمدد تلك الجماعات، أو تلك المتعلقة بانكماشها وفنائها. وفى هذا السياق، يمكن الإشارة إلى أهم تلك الاستراتيجيات المتبعة، على النحو التالى: * إستراتيجية الإنهاء: عادة تعتمد الدول تلك الاستراتيجية حين تسعى لتقويض تنظيمات محددة بنزع سلاحها أساسا بالقوة العسكرية والتدابير الأمنية. يتطلب هذا وجودا كثيفا للقوات البرية، والعناصر الأمنية، مع تكثيف وتطوير الجهود الاستخباراتية. وربما يستغرق الأمر سنوات لتحقيق النجاح... يعتمد هذا فى الحاصل الأخير على حجم ومدى تقدم الفاعل المستهدف، مدى اختراقه للمجتمع المحلي، الموارد المخصصة لاستراتيجية الإنهاء، والأوضاع البيئية المحلية. مثال جيد على هذه الاستراتيجية؛ الحملة العسكرية والأمنية التى تقوم بها مصر فى سيناء منذ يونيو 2013، والتى تستهدف تطهير سيناء بشكل حاسم من تلك التنظيمات، من خلال تصفية عناصرها أو القبض عليهم ومحاكمتهم. ومؤخرا حدث تطور ملحوظ بشأن تلك الحملة، بدا من خلاله أن مصر أصبحت معنية فى الوقت الراهن، وبأكثر من أى وقت سابق، بتوظيف (أو على الأقل تحييد) الفواعل المحلية فى سيناء. تجلى ذلك فى مؤتمر قبائل سيناء فى العاشر من مايو الماضى. صحيح أن البيان النهائى من «اتحاد قبائل سيناء» لم يكن إعلانا للحرب ضد «ولاية سيناء» الداعشية، إلا أن، توصياته لها تأثيرات كبيرة على الحملة العسكرية المصرية فى محافظة شمال سيناء، وعلى دوائر صنع القرار فى مصر، الذين يبحثون عن طريقة لعزل السكان بشكل عام عن العناصر المسلحة الإرهابية فى هذه المنطقة. * إستراتيجية العقاب المحدود: تعتبر هذه الاستراتيجية الأكثر محدودية. إنها تسعى بالأساس لردع ممارسات محددة تمارسها هذه الجماعات أو ربما تخطط لها، عبر وسائل تمثل أشكال رمزية من العقاب الموجه ضدها. بالنسبة للقوات المسلحة، قد يتمثل ذلك فى المواجهة التى تستهدف خطوط إمداد تلك الجماعات (عبر دعم غارات بطائرات مقاتلة أو من دون طيار)، أو من خلال استهداف بعض معسكرات وأماكن تمركز تلك العناصر عن طريق الغارات الجوية أيضا، أو عبر عمليات معقدة لعناصر من الكوماندوز. من بين الأمثلة على هذه الاستراتيجية، الغارات الجوية التى نفذها سلاح الجو المصرى، فى فبراير الماضى، عقب قيام عناصر داعش فى ليبيا بتصفية نحو عشرين من الأقباط، من الذين يعملون فى ليبيا،. كذلك ما ذُكر بشأن إرسال مصر بعض وحدات القوات الخاصة، لمهاجمة أحد معسكرات داعش فى شرق ليبيا. حيث سعت تلك العمليات إلى ردع تلك الجماعات عن القيام بهذا النوع من العمليات، من خلال إيصال رسالة مفادها أنه، وبرغم بُعد الشُقة، لن تتسامح القاهرة مع أى محاولة تستهدف أمن وسلامة مئات الآلاف من المغتربين ممن يعيشون ويعملون فى ليبيا. إضعاف الفاعل * إستراتيجية التعطيل والتحييد: تهدف إلى إضعاف الفواعل العنيفة خارج الحدود، بما يكفى لئلا تتمكن من تصدير العنف والإرهاب، إلى داخل البلاد. كذلك قطع خطوط التواصل بين الفواعل العنيفة داخل البلاد ومثيلاتها فيما وراء الحدود، بهدف حرمان الأولى من الدعم القادم لها من الخارج. أيضا قطع الطريق على كل محاولة لتحويل الجوار الجغرافى إلى مناطق دعم لوجستى للنشاط الإرهابى فى داخل الحدود. النموذج الواضح على تبنى تلك الاستراتيجية يتجسد فى التدابير والسياسات ذات الطابع الأمنى التى باشرتها مصر على الحدود مع كلا من غزة وليبيا. فالمؤسسة الأمنية فى مصر تنظر لحماس كفاعل رئيسى مشترك فى تأسيس أنصار بيت المقدس، كونها مسئولة عن المنطقة التى تمثل الفناء الخلفى الضرورى لاستمرار عملياتها. ومن هنا، فالصلة بين حماس فى غزة والحملة الإرهابية المسلحة فى سيناء هى السبب فى إنشاء مصر منطقة أمنية محظورة بعرض 1 كم على امتداد الحدود مع غزة. وهى تعمل كذلك على تدمير البنية التحتية الممتدة من الأنفاق التى شيدتها حماس، واستخدمتها لتهريب أسلحة وعناصر تنفيذية من غزة إلى سيناء وعودتها مرة أخرى إلى غزة. من ناحية أخرى، وعقب استيلاء مليشيات أنصار الشريعة، أوائل أغسطس 2014، على قواعد الجيش الليبى فى بنغازي، عمد الجيش المصرى إلى زيادة وجوده على طول الحدود. وعزز حرس الحدود كمائنه المختلفة لمنع تسلل العناصر، وعمليات التهريب. كما سعى الجيش إلى استمالة النخب القبلية فى المنطقة الشرقية فى ليبيا. وبخلاف تركيز المؤسسة الأمنية المصرية على أمن الحدود، وحراسة الحدود الليبية، تعمق القاهرة صلتها يوما بعد الآخر مع برلمان طبرق، ومع شخصيات وقوى معادية لمليشيات فجر ليبيا (لاحظ مؤتمر القبائل الليبية فى القاهرة، قبل أسبوع). كما تسعى لتكثيف التعاون الاستخباراتى، والتنسيق العملياتى مع الجيش الليبي. باختصار، قضية ليبيا مثل قضية غزة، بالنسبة لمصر.. تُفهَم فى سياق علاقتها بالاستقرار الداخلى لمصر. والمقاربة المصرية بشأنهما تتمركز الآن حول الأمن، وربما تمتد فى المستقبل القريب إلى السياسة والدبلوماسية البناءة. *استراتيجية تدعيم الإستقرار فى إقليم غير مستقر: عندما يتعلق الأمر بما وراء الحدود المصرية، تتبنى الدولة المصرية مقاربة تركز أكثر على الاستقرار عبر الاحتواء السياسي. هكذا يبدو الموقف المصرى من الصراعات فى سورياوالعراق واليمن. أى أن مصر تعارض أى تغيير فى الأنظمة أو الحدود... ومنها دول ليست حليفة بالضرورة. فرغم خصومتها طويلة المدى مع إيران، والتى لا يبدو أن هناك أية إشارة على أنها تتراجع، مضت مصر بنشاط على مسارات دبلوماسية مع حلفاء طهران فى العراقوسوريا.. إنه موقف يتأسس على دعم الاستقرار، وليس المضى على طريق تعزيز أجندات إقليمية. فعلى صعيد الأزمة السورية، نأت مصر بنفسها بعيدا عن فكرة تغيير النظام فى سوريا، خاصة مع انتشار داعش على الحدود السورية- العراقية. وإلتحاق العديد من المتشددين المصريين بالقتال هناك... بل ولعل البعض داخل المؤسسة الأمنية المصرية قد مضى لما هو أبعد من ذلك، باعتبار قتال الأسد ضد داعش قضية مشتركة. صحيح أن مصر ليست فاعلا دبلوماسيا مركزيا فى سوريا، لكن مع ذلك تستعد لاستضافة مؤتمر المعارضة السورية خلال أيام قليلة. وهذه ليست المرة الأولى لاجتماع من هذا النوع... فقد سبق للقاهرة أن احتضنت مؤتمرا مماثلا فى يناير الماضى، برعاية « نصف رسمية» من الخارجية المصرية. وقد انتهى ذلك المؤتمر إلى توافق حول «نقاط عشر» تشكل خريطة طريق لمرحلة انتقال سياسى فى سوريا. غابت عن تلك النقاط العشر قضية رحيل الأسد. وفى ذات السياق، فإن الموقف المصرى من الأزمة السورية يتمثل فى النقاط التالية: (1) سوريا بالغة الأهمية بالنسبة للأمن القومى العربي، المصرى بخاصة، وما يجرى فيها يمس بصورة مباشرة مصر، سلباً أم إيجاباً. (2) وحدة سوريا هدف رئيس للسياسة المصرية، بما يعنيه ذلك، وحدة وحفظ مؤسسات الدولة السورية ومنع انهيارها. (3) الأولوية فى سوريا يجب أن تُعطى لمحاربة الإرهاب والجماعات الإرهابية. (4) لا حل عسكرياً للأزمة السورية، الحل سياسى فقط، وعن طريق الحوار والتفاوض. (5) لا قيد أو شرط مسبق على بقاء الأسد، أو أن يكون جزءاً من الحل، طالما أن الأمر سيتم بالتفاوض والتوافق. هذا التوجه المؤيد لدعم الاستقرار أعرب عن نفسه بشكل أوضح وأكثر علنية فى خضم الصراع فى العراق.. فبعد سقوط الموصل بين يدى داعش، العام الماضى، تحدث الرئيس السيسى مباشرة لرئيس الوزراء العراقى آنذاك نورى المالكي، عارضا الدعم المصرى الكامل. تبع المحادثة الهاتفية المزيد من التعليقات المعلنة شجب فيها السيسى احتمال استقلال الأكراد وتقسيم العراق، إذ قال السيسى إن الاستفتاء الذى يستفتى عليه الأكراد الآن هو فى الحقيقة ليس أكثر من بداية لتقسيم كارثى للعراق إلى دول أصغر معادية. وأتبع هذا التصريح بإرساله وزير خارجيته لبغداد، فى إشارة إلى المزيد من الدعم. فحوى رسالة وزير الخارجية كان مناقشة الخطر الإقليمى الذى تمثله مواجهة طائفية وانتشار التطرف والإرهاب. تجسير الفجوة * جملة القول: بالنظر إلى أن مصر نفسها لا تزال تتعافى من اضطراباتها الثورية، فإن قدرتها على لعب دور نشط فى استقرار بلدان أخرى مضطربة، مثل سوريا، العراق واليمن، تبدو محدودة. فضلا عن أن مصر، على المدى القصير، ستقيد نفسها بالعمل جنبا إلى جنب ودول الخليج، تحديدا السعودية والإمارات. لكن حتى فى ظل القيود الراهنة على حركتها، يبدو أن القاهرة تسعى من خلال الحوار الهادئ والمشاورات البناءة مع حلفائها الأقوى، إلى التأكيد على معنى مهم، مفاده، أن القيادة المستحقة للنظام العربي، فى تلك اللحظات المصيرية، تتطلب بالضرورة الإلتفات إلى أولوية تجسير الفجوة بين مواقف وأولويات دول معسكر «الاستقرار العربى» أى السعودية ومصر والإمارات والأردن، من أجل استكمال معادلة القوة فى إقليم مضطرب.