هناك انجاز بالغ الأهمية لعبد الرحمن الابنودى فى مجال الأغنية العربية، وعلى الرغم من عدم تقديره هو شخصيا لهذا الإنجاز الكبير، حيث تجنب وضع الأغانى التى كتبها فى الدواوين الشعرية التى أصدرها، وكان يعتبرها مجرد «أكل عيش» ويطلق عليها تعبيرا غريبا وهو «قباقيب» بدلا من قصائد، بمعنى أن هناك من يرتديها، وبالتالى فهى ليست ملكا خالصا له، إلا أن هذه «القباقيب» كما يسميها عندما انهالت على رءوس الملايين من المصريين والعرب، نزلت بردا وسلاما، وبهجة وفرحة عارمة، وعندما تنشر أعماله الكاملة ستحتل هذه الأغانى مجلدا ضخما بينها، وفى الواقع فلقد غير الابنودى شكل ومحتوى الاغنية المصرية وجعلها تتنفس هواء صحيا منعشا عوضا عن اغراقها فى مشاعر عاطفية عريضة، وحولها إلى أغنيات للحياة، وعن الحياة اليومية للشعب.. لقد ارتدت أغنيات الابنودى اصوات مطربيها والحان موسيقيها وأداء عازفيها، وشكلت فى أحيان كثيرة ميلادا جديدا لهم، فمحمد رشدى على سبيل المثال قبل الابنودى ليس هو نفسه محمد رشدى بعد لقائه معه فى أغنيات «تحت الشجر ياوهيبة» و «عدوية» و «عرباوى»، ولقد تحول مع هذه الأغنيات من مجرد مؤد للاغانى الشعبية ومطرب للافراح فى أغانى من نوع «قولوا لمأذون البلد يجى يتمم فرحتى» إلى مؤد لأغان درامية خالصة. ويلاحظ هذا الاختلاف الشديد فى نوعية الغناء الذى يقدم من خلال الاغانى التى كتبها عبدالرحمن الابنودى عما سبقه من أغان لأهم الاصوات الغنائية فى مصر والعالم العربى، كما هو الحال لفايزة أحمد فى أغانى «قاعد معاى وبيشرب شاى» و «مال علىَّ مال» و«بالى معاه»، ونفس الحال بالنسبة لشادية فى «آه يا اسمرانى اللون»، وصباح فى لقائهما الوحيد معه فى أغنية «ساعات»، وبالطبع وعلى رأسهم جميعا عبد الحليم حافظ فى الأغانى التى أراها مع الابنودى سواء فى أغنياته الشعبية مثل «أنا كل ما اقول التوبه» أو العاطفية مثل «أحضان الحبايب» و «الهوى هوايا» أو ما يسمى بالأغنية الوطنية، والتى يقصد بها تلك الأغانى التى تعد لمناسبات خاصة تتسم بطابع قومى حماسى عام، مثل أغنيات «موال النهار» و «احلف بسماها» و«ابنك يقولك يا بطل: وهى أغنيات تتجاوز المناسبات التى اعدت من أجلها، لتتحول إلى أغان راسخة فى الوجدان الشعبى، لقد غير الابنودى الأغنية العربية شكلا ومضمونا، ونقل ما كان يجمعه ويدرسه ويطلق عليه «غنا الغلابة» إلى غناء الشعب بكل اطيافه وفى كل حالاته... ولقد أدى النجاح الهائل والاستثنائى لهذه الأغانى إلى أن يحتل الابنودى مكانة مهمة، ويكتسب شعبية كبيرة، إنه الشاعر الوحيد الذى تغنت الشعوب العربية باغانيه على مدى نصف قرن من الزمان، ولقد أدت به هذه الشعبية الضخمة إلى أن يحظى باهتمام كل الرؤساء والمسئولين السياسيين فى مصر، كما هو الحال بالنسبة لهذه النوعية البالغة الشهرة والتأثير من الفنانين والكتاب، وعلى رأسهم بالطبع أم كلثوم التى كانت تعامل معاملة استثنائية تسبق بها «بروتوكوكيا» رؤساء وزراء مصر.. يذكر الابنودى أنه على الرغم من اعتقال الرئيس جمال عبد الناصر له إلا أنه تغنى به بعد وفاته، وتكشف للرؤساء الذين تلوه، وهو فى الواقع أمر غير صحيح، فنظام عبد الناصر بجانبه البوليسى قد اعتقل الابنودى فى اطار منع أية تنظيمات خارج تنظيم الدولة الواحد «الاتحاد الاشتراكى»، ولقد تم هذا الاعتقال بسبب انضمام الابنودى إلى تنظيم «وحدة الشيوعيين» وهو تنظيم صغير تحول إلى رمز، ومعنى واكتسب قيمة تذكارية أكثر منها عملية لرفضه لقرار حل الاحزاب الشيوعية فى مصر عام 1965، وانضمام اعضاء تلك الاحزاب إلى الاتحاد الاشتراكى بحجة التحالف مع ما سموه بالجناح الاشتراكى فى السلطة، ولتبرير قرار الحل الذى كان حدثا غير مسبوق فى تاريخ الاحزاب الشيوعية فى العالم، وكان الانضمام إلى تنظيم «وحدة الشيوعيين» وقتها بمثابة تسجيل موقف من قرار حل الاحزاب الشيوعية أكثر منه ممارسة سياسية نضالية.. وهكذا تم اعتقال عبد الرحمن الابنودى وسيد حجاب وصلاح عيسى وجمال الغيطانى وسيد خميس وعلى الشوباشى وفوزى جرجس والكاتب الاردنى غالب هلسا فى أكتوبر عام 1966، بالإضافة إلى اعتقال أحد قادة هذا التنظيم فى وقت سابق، وهو الكاتب والمفكر والمناضل الكبير إبراهيم فتحى، أما يحيى الطاهر عبد الله فلقد تمكن من الهرب لمدة أربعة أشهر ثم لحق بزملائه ليخرج معهم بعد شهرين من اعتقاله، ولقد سعى نظام عبد الناصر إلى عبد الرحمن الابنودى عقب الافراج عنه فى ابريل 1967 وبأمر أو موافقة من جمال عبد الناصر، وعن طريق وزير داخليته شعراوى جمعة (19201988) الذى لم يكن مجرد وزيرا للداخلية، ولكنه كان مقررا «للتنظيم الطليعى» وهو تنظيم سرى تابع للاتحاد الاشتراكى أقامة عبد الناصر للدفاع عن الثورة ضد أية محاولة للانقلاب عليها، ووصل عدد اعضائه إلى 30 الف عضو، واستمر لمدة ثمانية أعوام (19631971) وتشكل من ثلاث مجموعات، أولاها المجموعة الماركسية من الماركسيين الذين افرج عنهم عام 1964، وكان على رأس هذه المجموعة المفكر الماركى البارز محمود أمين العالم، والمجموعة الثانية هى مجموعة القوميين العرب بقيادة سمير حمزة، أما المجموعة الثالثة، فكانت من الرواد الذين تم تكليفهم بتكوين منظمة الشباب الاشتراكى، وعلى رأسهم عبد الغفار شكر أمين التثقيف بمنظمة الشباب، والذى أصبح فيما بعد عضوا بالمكتب السياسى لحزب التجمع ثم رئيسا «لحزب التحالف الشعبى» فى الوقت الراهن... أما عن سرية «التنظيم الطليعى» غير المبررة فلقد كانت بالمواصفات العامة للسرية فى مصر، بمعنى أنه (أى التنظيم) كان سرا بين اربعين مليونا من المصريين (تعداد المصريين وقتها).. ولقد تمثل سعى نظام عبد الناصر إلى عبد الرحمن الابنودى فى إجراء حوار امام «كاميرات» القناة الأولى للتليفزيون المصرى «وكانت جميع القنوات التليفزيونية قناتين فقط لا غير، بين وزير الداخلية السياسى مقرر «التنظيم الطليعى» وعبد الرحمن الابنودى الذى طالب فى هذا الحوار بالحدود القصوى المسموح بها وقتها فى قضية الديمقراطية وحرية التعبير، ورد عليه شعراوى جمعة بما معناه أن الحربة للشعب، ولا حرية لاعداء الشعب، أما من هو الشعب، فهو نحن المعبرون عن مصالحة، أى عبد الناصر ومعاونوه، أما أعداء الشعب فهم من يختلفون معهم فى الرأى حسب المفهوم السائد وقتها (؟!!!)... ومع هزيمة يونيو عام 1967 الفادحة، أرتفع صوت الابنودى عبر مجموعة من الاغنيات المقاومة، وتصور أن بإمكانه الدفع بالقيادة السياسية وتحريضها على المقاومة فى ظل هزيمة ثقيلة، وظروف سياسية بالغة التعقيد، فكتب أغنية تقول كلماتها: «ولا يهمك يا ريس من الامريكان ياريس حواليك أشجع رجال.. الصبر قاد طريق جوه صدور الخلايق ما يصنع الحقايق إلا عبور المحال» ومع التغيرات التى أعترت السياسة المصرية فى أعقاب الهزيمة كان يكفى ببساطة أن تمنع إذاعة الاغنية بعد أيام قليلة من إذاعتها ليتوقف ما تصوره الابنودى تحريضا ثوريا للقيادة السياسية، وإدرك الابنودى الذى توجع من الهزيمة وجعا شديدا، الموقف برمته، وانذ أنه كتب فى هذه الفترة رسالة طويلة فى صورة قصيدة موجهة إلى ايقونة الثورة فى العالم المناضل الثورى العالمى ارنستو تشى جيفارا، الذى قامت المخابرات المركزية الأمريكية بمساعدة القوات المسلحة البوليفية بالقبض عليه واعدامه فى 9أكتوبر عام 1967، يبثة فيها شكواه مما يجرى فى بلادنا، واتذكر منها شطرا يقول فيه الابنودى: «والشجرة أن مالت ما اسمهاش مالت.. مادام ده بيحصل فى العالم الثالث» وللاسف فإن هذه القصيدة لم تنشر، وأرجو أن يتم البحث عنها ونشرها لاهميتها فى التعبير عن موقفه السياسى خلال هذه الفترة، وبعد هزيمة يونيو استغرق الابنودى فى عمل بالغ الأهمية كرس له سنوات طويلة من حياته، وهو جمع السيرة الهلالية وتسجيلها وتدوينها بالإضافة إلى كتابة شعر أكثر وأغان أقل، عوضا عن أن يصاب بحالة الاكتئاب المزمن التى اعترت الشاعر صلاح جاهين عقب الهزيمة، وانتهت به إلى نهاية مأساوية. وكان من الطبيعى أن يسعى الرئيس السادات إلى الابنودى، وأن يتودد إليه، وكان للسادات ميول فنية واضحة (بصرف النظر عن حجم موهبته)، فلقد حاول أن يعمل بالتمثيل فى السينما فى مقتبل حياته حسب الإعلان الشهير الذى نشره فى مجلة «الصباح» كما كان له محاولات فى كتابة الشعر بالعامية المصرية، كان متأثرا فيها بعبد الرحمن الابنودى، وقرأ السادات للابنودى عددا من قصائده فى لقاءات ودودة للغاية، إلا أن الابنودى الذى أتخذ دائما صف الشعب، ما لبث وأن تبين سياسات السادات على حقيقتها، فاتخذ موقفا حادا منه فى قصيدته الطويلة «سوق العصر» التى كتبها فى سبتمبر عام 1977، وقبل إعلان السادات لمبادرته بزيارة القدس بنحو شهرين، ثم حدثت القطيعة النهائية التى انتهت بهجوم حاد جارف، واستنكار شديد من الابنودى لاتفاقية كامب ديفيد ولصاحبها بالطبع. ونفس الشىء حدث مع الرئيس حسنى مبارك الذى سعى بدوره إلى هذه الصلة مع الابنودى، وطلب اللقاء به بعد أغنية «مصر يا أول نور فى الدنيا» إلا أن العلاقة ساءت بينهما عقب نشر الابنودى لقصيدة «الاسم المشطوب» عن عبد العاطى أحد ابطال حرب أكتوبر وأحد رموزها، والذى أصبح لا يجد ثمن العلاج، وصافحه مبارك بتعال وجفاء، أثناء تقديمه فى حفل أكتوبر بمسرح الجلاء، وينهى الابنودى قصيدته قائلا: «نطلق زفير الحزن فى النفس الاخير، ولا الشاشات بكيت/ ولا المذياع اذاع/ فاكشف غطا وجهك/ ومزق القناع/ بلا حكومة/ بلا رئاسة/ بلا معارضة/ بلا بتاع!» وكان هذا كافيا لان يدير مبارك وجهه للابنودى فعامله بجفاء أثناء لقائه به مع مجموعة من المثقفين والكتاب عام 2008. ولقد أخذ البعض على الابنودى هذه العلاقات بالرؤساء «جميع الرؤساء فيما عدا محمد مرسى» رغم أنه لم يسع إلى أى منها، ولكن حتى مع الخلاف السياسى بشأنها وبشأن علاقات وآراء سياسية للابنودى لن نجد فى اشعاره وأغانيه سوى مواقفا ملتزمة بالشعب وقضاياه، واحلامه وآماله التى عبر عنها على مدى خمسين عاما كاملة بقوة وثقة واقتدار. أما عمله لخمسة وعشرين عاما فى جمع السيرة الهلالية وتسجيلها صوتيا من أعظم روابها، وتدوينها ودراستها وترتبيها وتبويبها، فيكفى لان يدخله التاريخ من أوسع ابوابه، وعلى حد وصف الكاتب الكاتب الكبير جمال الغيطانى الذى سعى لنشر الهلالية «بدار أخبار اليوم» فإن: «جمع الهلالية وتدوينها يعادل جمع وتدوين كتاب» «الف ليلة وليلة» ولولا جهد الابنودى ومثابرته الشديدة لضاعت إحدى الملاحم فى التاريخ العربى، لقد تخطى الابنودى بهذا العمل المفهوم البليد لحراس الادب الشعبى الرسميين فى مصر الذين اكتفوا بالنظريات الاوروبية ودراسة المدون على أنه إبداع شعبى، أو كتابة السير بانفسهم اعتمادا على ذلك المدون، وفعل على حد قوله: «ما فعله هو ميروس نفسه حين... جمع متفرقات الالياذة وقدم للبشرية نصه الامثل». هناك جانب آخر من عمل الابنودى الابداعى، وهو عمله فى مجال السينما، وعلى الرغم من قلته إلا أنه يحتل مكانه مهمة فى السينما المصرية، فهو المشارك فى كتابة السيناريو وكاتب الحوار لفيلم «شىء من الخوف» إخراج حسين كمال عام 1969، كما كتب أيضا سيناريو وحوار الفيلم التليفزيونى القصير «أغنية الموت» عن مسرحية لتوفيق الحكيم وإخراج سعيد مرزوق عام 1979، وكتب كذلك حوار فيلم «الطوق والاسورة» عن قصة صديق عمره يحيى الطاهر عبد الله سيناريو عزمى وإخراج خيرى بشارة عام 1987، وفى كتابه «أيامى الحلوة» بحزئية، والذى يرفض أن يسميه سيرة ذاته رغم أنه به ما يشبهها، نجد على نحو غير مسبوق فى أدب الاعتراف فى العالم العربى، حكايات بالغة الخصوصية عن اسرته، وبوجه خاص عن امه فاطمة قنديل صاحبة التأثير الأكبر عليه، أن حكايته لما حدث لها عند تزويجها، وهى طفلة صغيرة، ومقاومتها لذلك، تكشف جوهر امرأة بالغة القوة والثبات والاخلاص، ونموذج للموهبة الفطرية رغم بساطة حالها، تصلح لأن تكون عن حق أما لشاعر بحجمه وتأثيره، أما بخطابها عن موته (الافتراضى) فى مارس عام 1982 فى قصيدته الطويلة «المتهم»، وقبل حدوث ذلك الموت فعليا بثلاثة وثلاثين عاما قائلا: «الموت مجرد سفر/ لاشوك ولا زعابيب ولا عتر/ ولا كلاب بتطل من جورنان/ تخطب بألف لسان/ تصبغ وجوهنا النيرة/ باكذب الالوان/ ولا رياح تزعفر/ ولا الوجوه الصامدة فى الميدان/ اللى بتعلن غره الإنسان/ يا أمى كل ما يهتفوا بموتى/ اتذكرى صوتى/ بذمتك من كان عظيم الشان؟». والاجابة بالطبع: نعم يا خال كان صوتك «عظيم الشان» لأبعد الحدود.