لا تزال كثير من منازل الطوب اللبن منتشرة فى أنحاء مصر ولكنها تقف كنموذج قديم ومهمل ينتظر اندثاره قريبا ليختفى من على أرض مصر واحد من أقدم نماذج البناء فى تاريخ الإنسانية ويشكل أولى خطواتها نحو الحضارة. لذا سنجد حتما من يتهم هذا الجيل بالغفلة إذا لم ننتبه إلى أننا أهملنا نموذج بناء تاريخيا، كان شكلا على أرضنا ومن طينتها، هذه الخطوة الجبارة فى طريق الحضارة الإنسانية فى البناء، حيث انتقلت هندسة البناء من مرحلة البناء بالطين الخالص وأغصان الشجر إلى مرحلة البناء المنظم، فهذا الجيل قد يكون سيء الحظ إذا كان مقدرا له أن يعيش فى العقود الأولى من القرن الواحد والعشرين، ليرى بنفسه نهاية آخر مبنى من الطوب اللبن على أرض مصر، بعد أن ساد نموذج البناء الأسمنتى الخرساني، حتى أفقد القرية المصرية معالمها الأساسية، لتتحول مبانيها إلى مسوخ معمارية تشبه ما يحزم القاهرة الآن من مبان درجنا على تسميتها بالعشوائية، تنتشر انتشارا سرطانيا.
حتى بيوت الفقراء فى الريف بدأت تتملص من الطوب اللبن أمام الزحف الخرسانى الذى أفقد الريف خصوصيته وقتل هويته ، فلا يكاد يبقى سوى البيوت المهجورة أو أضرحة الأولياء أو شواهد القبور، فهى فقط هى التى بقيت من نموذج بناء يضرب بعمق جذوره فى التاريخ المصري. فيلسوف العمارة المصرية المهندس حسن فتحى كان يعتبر أن من أهم مزايا البناء بالطوب اللبن أنها مناسبة للبيئة والمناخ في مصر، فقد عاش المصريون آلاف السنين يبنون بيوتهم بالطوب اللبن حتى بعد ظهور أسلوب البناء الحجرى فى عصر الدولة القديمة ، وربما كان ذلك يفسر لنا رؤية كثير من المؤرخين لسبب بقاء آثار كثير من معابد المصريين وأهرامهم، بينما لم يبق لنا من بيوتهم إلا خرائب وأطلال لا يكاد يكون لها أثر إلا بنظرة الخبراء المتخصصين. فمبانى الطوب اللبن تتأثر كثيرا بعوامل التعرية وسهلة الاندثار بسبب طبيعتها ، وهى فى حاجة دائمة إلى الترميم والإصلاح ولا تكاد تصمد أمام الزلازل والأمطار. الاندثار حتمي ولذلك يندر أن تجد مبنى قديما من الطوب اللبن ، فإمكانية اندثار مبانى الطوب نهائيا قائمة الآن وتنذر بالخطر لو لم تتنبه الدولة المصرية والهيئات المعنية بالمحافظة على الآثار، فالنماذج الباقية منه كما أشرنا ، لم يبق منها غير المبانى المهجورة والأضرحة وهى خارج اهتمام المسئولين عن الآثار فى مصر ، فالمبانى المهجورة مصيرها إلى زوال لأنه ستنهار تماما سواء بفعل الإهمال أو أمام حركة إحلال المبانى الحديثة محلها، غير أن الذى يمكن الإبقاء عليه ، هو تلك المبانى المتمثلة فى الأضرحة المنتشرة بأعداد كبيرة فى القرى والنجوع المصرية. وهذه الأضرحة بسيطة البناء للغاية ، فهى لا تزيد على غرفة يتوسطها الضريح الذى يعلو مدفن الشيخ ، وغالبا تكون حوله مقصورة من الخشب أو المعدن والبناء تعلوه دائما قبة وأحيانا أكثر من قبة ، وكثير من هذه الأضرحة المبنية من الطوب اللبن لم يعد يهتم بها الناس لأسباب عدة. خطر ثقافى فالتطور الثقافى يتعامل مع هذه الأضرحة بالتعالى لما يتعلق بها من قصص وأساطير لا يؤمن بها إلا العوام ، وأحيانا أخرى بسبب انتشار ثقافة السلفية الوهابية التى ترى فى قيام أو بقاء مثل هذه الأضرحة، طعنا فى العقيدة الإسلامية القائمة على التوحيد، فهى فى نظر الاتجاهات المتعصبة للدعوة السلفية، ليست سوى شكل من أشكال الشرك ، بل الخطر الأكبر فوق هذا وذاك، يأتى ممن يعتقدون فى بركة هذه الأضرحة، فكثير منهم عندما يقومون بتجديدها، يعيدون بناءها بالأسمنت وأنواع أخرى من الطوب ليس من بينها الطوب اللبن والطين، غير عابئين ولا يخطر ببالهم أن قيمتها الحقيقية تتمثل فى تميزها بهندستها وطريقة بنائها البسيطة. ولا يعنينا هنا مناقشة هذه الأمور، لكن الواجب التنبيه عليه هو أن الأضرحة الباقية من الطوب اللبن بقبابها الفريدة في الأشكال والأحجام، التى قام بها بناؤون بسطاء مجهولون، إلا أنهم استطاعوا أن يخرجوا لنا من الطين، هذه الفرائد من الأبنية والقباب وعمرت بعدهم بعشرات السنين. انقراض مهنة وقد انتهت أو كادت، عملية صناعة الطوب من الطمى حفاظا على خصوبة الأرض الزراعية بعد أن قلت كميات الطمى القادم مع مياه النيل بعد بناء السد العالى فى ستينيات القرن الماضي. فنموذج البناء الطينى قد قارب أن يختفى فى الريف، فلم تعد القرى المصرية تعرف مهنة «الطواب» وهو الذى يقوم بصناعة الطوب اللبن من الطين المخمر فى المخامر «(مفردها مخمرة) يتم تجهيزها من الثرى والماء المخلوط بمواد نباتية مثل هشيم القش مع التبن يسمى بالخلط، ثم يقوم الطواب باستخدام آلة خشبية بسيطة كقالب لتقطيع الطوب من «المخمرة وهى تكبر قليلا، عن حجم قالب الطوب على هيئة متوازى المستطيلات وهى مفرغة من أسفل وأعلى ولها يد صغيرة يمسك بها الطواب وتستخدم ك»طوابة» لعمل قوالب الطوب اللبن، حيث يضعها على كتلة صغيرة من الطين المعد بالطريقة السابقة، ثم يقوم بالضغط بيده حتى تغوص الطوابة فى كتلة الطين ويزيل بيده الأخرى ما يزيد من كتلة الطين فوق آلته، ليتخذ الطين داخلها شكل القالب ولا تستغرق هذه العملية أكثر من ثوان معدودة لكل قالب ثم ترص القوالب أفقيا كل قالب بمفرده وتترك لتجف تحت حر الشمس، حيث لا تتم هذه الصناعة البسيطة التى تسمى ب»دق الطوب» إلا فى شهور الصيف، حيث شدة وهج الشمس مع شبه انعدام لفرص سقوط الأمطار، ليخرج بعد ذلك الطوب اللبن الذى يشتهر باسم الطوب الأخضر فى الصعيد. ويتم البناء بهذه القوالب عندما تجف تماما،باستخدام الطين المخمر أيضا، فهو المادة المناسبة الوحيدة من مواد البناء لإتمام العملية، ويمكن أن تترك الجدران عارية من طبقة خارجية أو تتم عملية «التلييس «بالطين أيضا، لتصبح صفحة الجدار ملساء تصلح للقيام بعمليات الطلاء. والأضرحة مع غالبية المبانى الباقية من المبانى المبنية بالطوب اللبن، الغالب على طلاء جدرانها هو اللون الأبيض وأحيانا الأخضر والطلاء غالبا يكون بالجير وهو المادة المناسبة للطين. دعوة للإنقاذ وأخطر ما يكون على سلامة المبانى من هذه النوعية، هى الأمطار الشديدة التى تؤدى إلى إتلافها ومع الإهمال تنشأ شقوق وتصدعات تهدد سلامة المبني. وهذه المبانى خارج اهتمام المسئولين على الآثار الآن، حيث إن غالبيتها إن لم تكن جميعها، لا تنطبق عليها الشروط والمواصفات المحددة لاعتبار المبنى أثريا أو لم تمض عليها المدة المحددة لذلك. ولذلك أيضا، فهى خارج الحصر فلم يحدث أن قامت جهات رسمية أو غيرها، بعمل هذا الحصر حتى الآن ومن ثم فخطر الانقراض يتهددها لنصبح يوما قائلين أننا شهدنا يوما ما كان يسمى بعهد الطوب اللبن. وستقع هذه المسئولية التاريخية عن هذا الاندثار بالدرجة الأولى على الهيئات المحلية المختصة بالآثار المصرية وكذلك الهيئات الدولية مثل اليونيسكو والإليسكو أو أى جهة أخرى تهتم بالتراث الحضارى والحفاظ عليه.