عندما أدرك أن عملاء الديكتاتور يطاردونه, هرب من المدينة التي يعيش فيها لكنهم بادروا باعتقال زوجته وساموها ترويعا وتعذيبا حتي تعترف بمكانه. وتمكنوا من القاء القبض عليه عام.1944 وزجوا به في زنزانة. وكان يسمع أنات وصرخات المواطنين الذين يجري إعدامهم رميا بالرصاص, وكان بينهم أطفال صغار. ويقول كونراد أديناور, أول مستشار لالمانياالغربية, في مذكراته عن هذه الواقعة: لم أكن أتصور من قبل أن الشيطان موجود علي هذا النحو. وكان الشيطان النازي أدولف هتلر, الذي اختطف السلطة في المانيا عام1933, قد انتحر في30 ابريل1945, عقب الهزيمة المروعة في نهاية الحرب العالمية الثانية التي فجرها عام.1939 وكانت هزيمة ساحقة. تم في خلالها تدمير المانيا وتقويض امكاناتها الاقتصادية. وكأن البلاد ارتدت إلي القرون الوسطي أو إلي ما أطلق عليه الألمان عام الصفر. ومن فوق أطلال هذا العام, بدأ الآباء المؤسسون لألمانيا الجديدة, رحلة جسورة للنهوض بها. وشاءت ظروف شتي, وملابسات عدة, أن يكون كونراد أديناور ربان عملية اعادة البناء. وكان قبل عاصفة الحماقة النازية عمدة لمدينة كولونيا. وأحد أقطاب حزب الوسط. وهو حزب محافظ. غير انه عندما أصبح مستشارا بدا وكأنه ليبراليا واشتراكيا. ولذلك يعزي اليه الفضل في بلورة نظام سياسي واجتماعي جديد انتشل المانيا من كبوتها في غضون سنوات قلائل. وحققت معجزة اقتصادية, وكانت في ذات الوقت معجزة اجتماعية. وهي معجزة, بلورت ابعادها ومقاصدها رؤية طموحة وشجاعة لألمانيا الجديدة.. المانيا التي تجدد مثل العنقاء, ذلك الطائر الأسطوري ريشها, وتحلق عاليا في فضاءات الكون. وقد حلقت المانياالجديدة بجناحين قويين هما: المبادئ الأساسية للنظام السياسي. وهي مبادئ دستورية ترسخ الديمقراطية, وقيم المواطنة والتكافل الاجتماعي, وتلزم الدولة باحترام كرامة الانسان.. وهي مبادئ جديرة بالتأمل والاعتبار. الاقتصاد الاجتماعي الحر, وهي النظرية الاقتصادية التي اعتمدها أديناور ووزير اقتصاده اللامع لودفيج ايرهارد لاعادة البناء. وكم كان أديناور فطنا وحصيفا عندما رفض الرأسمالية علي النمط الأمريكي. وفضل عليها نظاما يضع ضمن أولوياته تعزيز دولة الرفاه الاجتماعي, التي تؤسس للتكامل الاجتماعي والرعاية الصحية والتعليم المجاني من المرحلة الابتدائية حتي الجامعية. وكان المراد تحقيق العدالة الاجتماعية. ودرء مخاطر البطالة, ووأد أشباح النازية. وفي الوقت الذي كانت فيه المانياالجديدة في الشطر الغربي تصعد الي القمة, كانت المانيا الديمقراطية في الشطر الشرقي يتعثر مسارها. ذلك انها وقعت أسيرة في قبضة نظام شمولي يخضع للهيمنة السوفيتية. ورغم ذلك اندلعت ثورة مناهضة للنظام في يونيو.1953 غير أن القوات السوفيتية قمعتها. ولم يحل ذلك دون هرب المواطنين الي المانياالغربية. ولذلك أقامت السلطات في اغسطس1961 سور برلين للحد من هرب المواطنين. وقال الزعيم الشيوعي اريك هونيكر: لقد اقيم السور ليبقي مائة عام أو يزيد. لكن السور لم يبق سوي بضع سنوات عجاف. ففي ذات مساء جميل اجتاح الألمان الشرقيون السور, وتدفقوا علي المانياالغربية ليلة9 نوفمبر.1989 وكان معني هذا سقوط النظام الشمولي تحت اطلال سور برلين. وتوحدت المانيا في اكتوبر.1990 وكان ضمن الثوار الألمان الشرقيين القس يواخيم جاوك. وكان يرصع مواعظه للشباب بالحرية والديمقراطية. ولذلك واجه عنتا شديدا. ولعله تذكر في زهو وسعادة مشاهد من النضال من أجل الديمقراطية عندما تم انتخابه رئيسا لألمانيا يوم الأحد18 مارس الحالي. واعتبره يوما جميلا.. ان الحرية فطرة انسانية لا يمكن مصادرتها أو اعتقالها.. انها حكمة أسطورة عام الصفر. المزيد من أعمدة محمد عيسي الشرقاوي