ثمة حديث دائر حول تعديلات مقترحة على قانون تنظيم الجامعات. ولم يعد سراً عمق وتجليات الأزمة التى تعانى منها جامعاتنا . أبرز هذه التجلّيات هو تدهور نوعية التعليم الجامعى على نحو مخيف ومقلق لأسبابٍ عدةٍ أولها قلة التمويل وضعف الموارد. وهو ما تسعى التعديلات الجديدة لمواجهته من خلال قيام الجامعة بأنشطة استثمارية بهدف الربح. فهل تجيء التعديلات المقترحة لتسهم فى حل الأزمة أم لتسهم فى تفاقمها ؟ لنعترف ابتداء أنه لا يمكن فصل قضايا نوعية التعليم الجامعى وضعف التمويل والموارد وغيرها عن ظاهرة تضخم أعداد الطلاب الملتحقين بالجامعات بما لا يتناسب بأى معيار مع الإمكانات المتاحة التى تضمن تعليماً جيداً ولو بالحد الأدنى. فى ظل هذا التفاوت الصارخ بين أعداد الطلاب وبين الإمكانات المتاحة لا يوجد سوى أحد حلين : أولهما الحد من أعداد الطلاب الملتحقين بالجامعات لصالح التوسع فى التعليم الفنى قبل الجامعى. وثانيهما البحث عن موارد مالية من خارج الموازنة الحكومية للإنفاق على التعليم الجامعى. بالنسبة للحل الأول لا يبدو أن الحكومة تحبذه ربما تفادياً لرد فعل الرأى العام من محاولة تقليل أعداد الطلاب الملتحقين بالجامعات، وربما لأن هناك كليات جامعية يمثل الكتاب الجامعى الدخل الأكبر لأساتذتها مما يُصعّب من ترشيد أعداد الطلاب، وربما ثالثاً لأن المسئولين عن التعليم فى مصر لا يفضّلون سياسة الإصلاحات الجذرية ويميلون إلى المسكّنات إيثاراً للسلامة وخوفاً من تبعات التطوير فى مجتمع لا يتحمس كثيراً للتطوير بحكم ثقافته النهرية. بالطبع هناك وجهات نظر معارضة للحد من أعداد طلاب الجامعات انطلاقاً من فكرة أن التعليم حق للجميع وأن التعليم ذاته هو نوع من المعرفة والتثقيف . لكن وجهة النظر السابقة رغم وجاهتها تصطدم بحقيقة أن مستوى التعليم الجامعى الحالى لا يحقق معرفةً أو تثقيفاً ولا يلبى حتى المتطلبات الجديدة لسوق العمل. لا يبقى إذن سوى الحل الثانى، الذى يبدو أن التعديل المقترح لقانون تنظيم الجامعات يهيئ له وينظمه، وهو البحث عن تمويل ذاتى للجامعات خارج الموازنة العامة للدولة من خلال قيام الجامعات بمشروعات استثمارية تجلب لها أموالاً تتيح لها الإنفاق على العملية التعليمية. هذا التعديل المقترح جدير ببعض الملاحظات. الملاحظة الأولى؛ أنه لا ينبغى النظر إلى الجامعة كشركة تجارية او مؤسسة ربحية تنشغل باعتبارات الربح والخسارة لأنها بالأساس مؤسسة وطنية عامة تقدم خدمة تعليمية وتثقيفية بهدف تنوير المجتمع والنهوض به. وبالتالى فمن غير المقبول أياً كانت المبررات تشجيع المؤسسات التعليمية على القيام بأنشطة استثمارية تجلب لها الأموال ليس فقط لأن الجامعة غير مؤهلة لهذه المهمة ولكن أيضاً لأن انشغال الجامعة بمشروعات استثمارية سيكون على حساب انشغالها الأصيل بالعملية التعليمية والبحثية. ثم إن المقترح الجديد سيفتح الباب لاحتمالات ومشاكل نحن فى غنى عنها لا سيما فى مؤسسات ليست ملتزمة ولا هى فى الأصل مقتنعة بتطبيق معايير الشفافية فى عملها. الملاحظة الثانية؛ أن الاتجاه المؤيد للمقترح الجديد يبدو متأثراً بما يفعله الكثير من الجامعات الأجنبية الناجحة ، وهذا بحد ذاته أمر صحيح. فجامعة هارفارد مثلاً تمتلك وقفية قوامها عشرات المليارات من الدولارات. لكن تطبيق النماذج العالمية الناجحة فى التمويل الذاتى على الحالة المصرية يتوقف على مجموعة من المقومات والشروط لا تتوافر لدينا. فجامعة هارفارد وغيرها من الجامعات تعتمد أساساً على التبرعات المقدمة من القطاع الخاص ورجال الأعمال الذين يؤمنون حقاً وفعلاً بالمسئولية الاجتماعية لرأس المال. أما التمويل الذاتى من خلال ربط الجامعة بمشروعات استثمارية فيتحقق أساساً من خلال إقامة شراكات تكون فيها مراكز البحث العلمى فى الجامعات أذرعاً علمية لكبرى الشركات والمصانع، وهذا أمر يتطلب مستوى متقدماً من البحث العلمى لا يتوافر فى أغلب الجامعات المصرية. الملاحظة الثالثة؛ أن الاعتقاد بأن التمويل الذاتى من خلال الاستثمار يبدو حلاً لمشكلة قلة الإمكانيات والمخصصات الحكومية للجامعة أمر يحتاج إلى مراجعة وتصويب. فقد سبق أن جربنا حلولاً شبيهة بذلك فى الجامعات وكانت النتيجة كارثية. فقد تفتّق الذهن الجامعى مثلاً عن فكرة تشجيع الطلاب المصريين والعرب على الالتحاق بالدراسات العليا (ماجستير ودكتوراة) مقابل رسوم مالية. ومع الرغبة فى زيادة حصيلة هذه الرسوم اضطرت الجامعات وبعض الكليات إلى التوسع غير المدروس فى قبول مئات وآلاف الطلاب فى قسم الدكتوراه بما يتعارض مع أبسط وأدنى متطلبات البحث العلمى الجاد، يضاف ذلك إلى ما سبق أن أنشأته بعض الجامعات من وحدات تعليمية خاصة برسوم مالية كبيرة. واليوم نسمع عن برامج دراسية فى بعض الكليات الحكومية برسم سنوى يبلغ عشرين ألف جنيه سنوياً. المشكلة ليست فى المبلغ ذاته فهناك مدارس ابتدائية خاصة تزيد رسومها السنوية على هذا المبلغ بكثير. المشكلة هى فى قبول أعداد هائلة من الدارسين فى هذا البرامج على حساب الجودة التعليمية. نعم، تمكنت بعض الجامعات من تحقيق عائد مادى كانت بحاجة ملحّة إليه بالفعل، لكن بأى ثمن تحقّق هذا ؟ وما هى نتائجه على صعيد مستوى المخرج التعليمى ونوعية البحث العلمى ؟ الإجابة- ببساطة وألم- أن الثمن كان هو التساهل المتجاوز لكل المعايير العلمية فى منح درجات الماجستير والدكتوراة ( وهى أعلى درجة علمية تمنحها الجامعات فى مصر ) لمن لا يمتلك الحد الأدنى من الحد الأدنى لمقوّمات البحث العلمي . نعم استفادت الجامعة مالياً لكنها أهدرت سمعة البحث العلمى فى مصر بل ووصمته بالغش ، والغش هنا يلحق كل الأطراف وليس الطالب او الباحث وحده !! فهل تبنى الأمم مستقبلها على الغش ؟! ------------ قالوا.. الخطأ خصلة إنسانية، لكن الأحمق وحده من يستمر فيه لمزيد من مقالات د. سليمان عبد المنعم