هناك الكثير من القضايا الكبرى تسمى القضايا «المسكوت» عنها, بمعنى أنها قضايا حيوية لتطور المجتمع وتقدمه ولكنها بحكم الخلافات التى تثيرها تظل كامنة تحت السطح أو تناقش فى الغرف المغلقة وما أن تخرج الى العلن حتى يحدث الانفجار لتُختبر مدى عافية أوعدم عافية المناخ الفكرى السائد. ومن يتابع الجدل المحتدم على ساحة النقاش العام الآن حول قضايا مثل تجديد الخطاب الدينى ومراجعة بعض كتب التراث ومسألة حجاب المرأة وغيرها لابد أن يلحظ أن هناك أزمة ما تعترى حياتنا الثقافية. هذه الأزمة لا تتعلق بمدى صحة أو خطأ الآراء المطروحة أو الاتفاق والخلاف حولها ولكن بردود الفعل العنيفة والرافضة حيالها والتى تصل الى حد «التجريم» أو «التكفير» أو تقديم البلاغات ضد أصحابها أوبعبارة أدق ضد كل فكرة أو وجهة نظر تغايرالتيارالعام السائد أوتصطدم به. هذا هو جوهر الأزمة بعيدا عن التفاصيل, لأن الأصل فى الأشياء هو السماح لجميع الآراء أن تعبرعن نفسها بحرية والإفراج عنها من محبسها المغلق ثم مناقشتها بالحجة والمنطق ومن خلال هذا التفاعل تتجدد الأفكار ويرتقى المجتمع. فى الأزمنة الماضية كان العالم الاسلامى يُفاخر بأنه رمز «الوسطية» أى الاعتدال, بما يمتلكه من مرونة تلائم بين ثوابت الشرع ومتغيرات العصر فى إطارما يعرف ب «المقاصد الكلية» لتأويل النصوص وتفسيرها, وكانت مصر فى مقدمة الدول المعبرة عن هذه الوسطية ليس فقط على الصعيد الدينى وإنما على المستوى الثقافى العام والمجتمع ككل أى تحولت الوسطية الى ثقافة مدنية للجميع, وبفضلها صارت مصر بلد التعددية والتنوع والثراء الثقافى, احتضنت مختلفى الأديان (مسلمين ومسيحيين ويهود) والجنسيات (يونانيين وأرمن وايطاليين وفرنسيين وجاليات أخرى كثيرة) تعايش الكل فى ظل مناخ متسامح يتفاعل مع بعضه البعض لينتج تلك الثقافة المصرية المتميزة. وبموجب نفس الوسطية أقامت مصر تجربة ليبرالية رائدة امتد تأثيرها الى خارج حدودها فى العشرينيات من القرن الماضى. كان التحديث والتنوير والاجتهاد والإبداع ممكنا وعلى كل المستويات, فقدمت مصر أيضا الى المنطقة والعالم ألمع الأسماء فى الأدب والفن والسينما والمسرح والشعر. فماذا حدث لهذه الوسطية؟ لقد بدأت تتراجع منذ منتصف السبعينيات لتُخل مكانها تدريجيا لثقافات أخرى اما شديدة المحافظة لا تقبل بمنطق التجديد يُعبرعنها أفراد ومؤسسات أومتطرفة تُحرم التفكير وتمثلها تيارات وجماعات الإسلام السياسى, وفى الحالتين - وإن اختلفت الدرجة - تاهت الوسطية. فى هذا السياق انتشرت أفكار الوهابية والسلفية وفكرجماعة الاخوان المسلمين لتخترق العديد من الهيئات وتنفذ إلى المجتمع لتغير ثقافته وملامحه. ان هذه التيارات بحكم التعريف تعادى التحديث والتنوير والإبداع وتعتبر قيم الحرية والمواطنة والليبرالية والحقوق المدنية, التى هى جوهر الديمقراطية التعددية, قيما دخيلة على الثقافة «الأصيلة» التى لا تعدو كونها ثقافتها هى ذاتها, فكانت «أصوليتها» الجامدة هى الباب الذى تسللت منه «الفتاوى» المتطرفة والغريبة على الثقافة المصرية بوسطيتها المعروفة, وحل فقه ابن تيمية بفتاويه التى توظفها جماعات العنف فى تبرير أعمالها الارهابية, بدءا من تلك المحلية الصغيرة وصولا إلى تنظيمات القاعدة وداعش وأنصار بيت المقدس وبوكو حرام وغيرها, محل كل المدارس الفقهية والفكرية الإسلامية المستنيرة من مذاهب المتكلمين الى المعتزلة والتراث الأندلسى برموزه الشهيرة وفى مقدمتهم ابن رشد وهكذا. الأكثر من ذلك أو المفارقة هنا أن الذى استفاد سياسيا من هذا المناخ المغلق كانت جماعة الاخوان تحديدا, التى أعادت تقديم نفسها على أنها ممثلة «الوسطية والاعتدال» رغم أن تاريخها الفكرى والواقعى لم يخل من الجمود والتطرف والعنف. كانت جماعة سلفية بامتياز قبل أن تضيف الى فكرها النزعة «الجهادية» أى الشق المسلح مع انشائها للتنظيم السرى, فضلا عن أن مبرر وجودها استند أساسا إلى قضية محورية واحدة وهى استعادة نظام الخلافة الذى انتهى عصره فعليا بزوال الخلافة العثمانية. أى أنها لم تراجع أيا من هذه الأفكار ولم تبتكر منهجا مختلفا ولم يكن الاجتهاد لتجديد التراث مطروحا أصلا ضمن أيديولوجيتها حتى تدعى هذه الوسطية, التى بقيت شعارا لا تعريف محددا له ولا ممارسة تثبته على الأرض. وهكذا كان حال كثير من الكتاب والمنظرين المنتمين فكريا لها والذين رفعوا بدورهم نفس الشعار، اى شعار الوسطية. مرة أخرى, ان استمرار المناخ المغلق هو فقط الذى سيغذى عوامل التطرف ولن يمنع جماعات الاسلام السياسى من الانتشار والتغلغل فى المجتمع. لذلك فان فتح آفاق التفكير الحر سيظل هو الخيار الأفضل مهما تكن صعوبته فى البداية. وربما ما يدعو الى التأكيد على هذا المعنى هو تلك النبرة الاعلامية التى تزايدت فى الآونة الخيرة, والتى تدعو ضمنيا لإغلاق الملفات الخلافية خاصة حول الاجتهاد والتجديد حتى لا تستغلها تلك الجماعات والإخوان تحديدا للهجوم على النظام الحالى, وكأن هذا التوجه الإعلامى - عن دون قصد- يعطى لهم (أى للإخوان) سلطة معنوية للتحكم فى المسار الفكرى والسياسى وبالتالى فى ثقافة المجتمع ككل. ان الحديث عن اعادة بناء الدولة الوطنية الحديثة يجب ألا أن يقتصر على القول وإنما لابد أن تكون هناك ارادة للفعل ومن ضمن ذلك اقتحام مثل هذه القضايا الخلافية. ان مراجعة بعض كتب التراث أو تجديد الخطاب الدينى ليست من الأمور المستحيلة وقد سبقتنا دول وشعوب كثيرة اليها وفى مقدمتها أوروبا بتراثها المسيحى وحققت نقلة نوعية مكنتها من النهوض الحضارى والإنجاز على كل المستويات. الآن تبدو الجهود التى تبذل لدينا مبعثرة وغير مكتملة لذلك ما أن نلبث نبدأ حتى تعاد الدورة من جديد دون الوصول الى حلول أو مُستقر يحقق نوعا من التراكم الثقافى. ان هذه الأمور يجب أن نتطلع لها جميعا مثلما نتطلع إلى دور أكبر لمؤسسة الأزهر العريقة من خلال أعمال متكاملة تصدرعنها خاصة فى مجال الرد على مجمل فتاوى التطرف لتتجمع فى كتاب واحد يُحدث أثرا ملموسا. هذا الى جانب اجتهاد الباحثين فى نفس المجال. إذ لا يكفى أن يكون لدينا دستور ينص على حرية الفكر والابداع ويدعو الى الوسطية بمختلف معانيها دون أن يتحول ذلك الى واقع معاش نمارسه فعليا. ان التغيير قد يكون بطيئا ويستغرق زمنا ولكن يجب أن يبدأ ويستمر حتى تستعيد مصر حيويتها الثقافية ووسطيتها التى فقدت طويلا. لمزيد من مقالات د . هالة مصطفى