استعرضنا فى المقال السابق الخصائص الجوهرية لسوق العمل المصرية التى من أهمها ارتفاع معدل الاعالة وانسحاب المرأة من السوق وازدياد دور القطاع غير المنظم، فضلا عن ارتفاع معدلات تشغيل الأطفال، ويرتبط بهذه الأمور جميعا مشكلة البطالة التى أصبحت وبحق احدى المشكلات الأساسية الحاكمة لتطور المجتمع المصرى ككل وليس فقط النمو الاقتصادي. بل ويمكننا القول دون أدنى مغالاة إن نجاح اى حكومة يتوقف بالأساس على التعامل مع هذه المشكلة جنبا الى جنب مع قضية الفقر وسوء توزيع الدخل، فهما القضيتان الحاكمتان للحكم على مدى نجاعة السياسات الاقتصادية المطبقة.لذلك ينبغى ان ينشغل الفكر الاقتصادى المصرى كثيرا بهذه القضية نظرا لخطورتها وتداعياتها، خاصة ان آثارها لا تتوقف على الصعيد الاقتصادى (باعتبارها تمثل هدرا فادحا للطاقات البشرية المتاحة) فحسب، بل تمتد بآثارها لتشمل جميع جوانب المجتمع سياسيا واجتماعيا وحضاريا وتحتاج هذه المسألة إلى مناقشة أسباب هذه الظاهرة وبالتالى وضع الحلول المناسبة لها. وهنا تجدر الإشارة إلى أن التعريف العلمى للبطالة «ينصب على الشخص الذى فى سن العمل وراغبا فيه وقادرا عليه ويبحث عنه ولايجده وذلك عند مستوى الأجر السائد بالسوق». وعلى الرغم مما تشير إليه الإحصاءات الرسمية من تراجع نسبى فى معدل البطالة من 13.4% خلال الربع الثانى من عام 2014 الى 13.3% خلال الربع الثالث والى 12.9% خلال الرابع من العام نفسه لتصل النسبة على مستوى العام ككل الى 13% فإنها تظل مرتفعة للغاية خاصة ان الأرقام المطلقة تصل الى نحو 3.6 مليون متعطل. هذا مع ملاحظة ان نسبة البطالة بين الاناث تصل الى 24.8% مقابل 9.2% بين الذكور. ولعل خطورة المشكلة تكمن فى اتساعها لتشمل جميع قطاعات وشرائح المجتمع، خاصة الداخلين الجدد لسوق العمل،ويكفى للتدليل على ذلك ان نعلم ان معظم هؤلاء المتعطلين من الحاصلين على التعليم المتوسط الفنى (نحو 3709% من الإجمالى والتعليم العالى 24.3%). ومن الأمور المهمة هنا هى ارتفاع نسبة المتعطلين الذين سبق لهم العمل لتصل الى 51.6% من إجمالى المتعطلين، خلال الربع الرابع وذلك مقابل41.9% خلال الربع الثالث ونحو 33.4% فيما قبل مع ملاحظة ارتفاع النسبة بين الذكور من 54.2% الى 66.1% وارتفاع النسبة بين الاناث من 26.2% الى 33.9% خلال الفترة نفسه وهو ما يشير الى ان سوق العمل قد أصبحت طاردة للعمالة. مع ملاحظة ان هذا الاتجاه يتزايد بشدة فى الريف المصرى حيث ارتفعت هذه النسبة من 39.4% الى 53.6% مقابل ارتفاع طفيف فى الحضر من 44.3% الى 49.8%. وهنا يثار السؤال المنطقى اذا كانت معدلات البطالة تنخفض فكيف ترتفع معدلات البطالة لدى الذين سبق لهم العمل؟ ونعتقد ان الإجابة هنا تكمن فى كون سوق العمل أصبحت تعتمد على عمالة جديدة بدلا من العمالة القائمة وذلك توفيرا للنفقات، حيث إن العامل الجديد غالبا ما يحصل على أجور اقل من العامل القديم. ولهذا نلاحظ انخفاض نسبة المتعطلين لمدة تتراوح بين سنة واقل من سنتين من 24.5% الى 15% وكذلك المتعطلون لمدة تتراوح بين عامين وثلاثة أعوام من 22% الى 16.5% خلال الربع الثالث والرابع من عام 2014 على الترتيب. بينما ارتفعت نسبة المتعطلين اكثر من ثلاثة أعوام من 43.2% الى 54.9% خلال الفترة نفسها، اى ان التشغيل الذى شهده المجتمع خلال هذه الفترة تم من المتعطلين بين سنة واقل من ثلاث سنوات وهو ما يؤكد الاستنتاج السابق. ومن الأمور الأخرى الجديرة بالتأمل هى ازدياد حدة المشكلة بين حملة المؤهلات الفنية حيث تصل نسبة المتعطلين منهم لأكثر من ثلاث سنوات الى 71.2% مقابل 45.4% خلال الربع السابق، وكذلك المتعطلون من حملة المؤهلات العليا والذين ارتفعت نسبة المتعطلين منهم لاكثر من ثلاث سنوات الى 47% مقابل 39.2% خلال الفترة السابقة. وهنا تثار العديد من القضايا الأساسية والتى من أهمها العلاقة بين التعليم الفنى وسوق العمل فالجميع يتفق على اتساع الخلل فى هذا المجال ويطالب بالإصلاح، ولكن غالبا ما يتم هذا الإصلاح بصورة جزئية ومؤقتة، مثل انشاء وزارة للتعليم الفني، وبالتالى لم يتم التعامل الجذرى مع المسألة والتى كانت تتطلب دراسة أسباب تفضيل التعليم العام على حساب التعليم الفنى. ويرجع السبب فى ذلك الى عدة امور الاول يتعلق بالأطر التشريعية الحاكمة وما يتيحه القانون المصرى من مزايا للحاصلين على التعليم العام مقابل التعليم الفنى سواء فى الترقى داخل السلم الوظيفي، حيث يعد الحاصلين على مؤهل فنى فى درجات أدنى من امثالهم خريجى التعليم العام. يضاف الى ماسبق القيم السائدة لدى المجتمع والتى غالبا ما تنظر الى خريجى هذا النظام نظرة دونية مقارنة بأصحاب التعليم العام، فعلى سبيل المثال فإن الاشتراك فى النوادى الرياضية والاجتماعية يشترط الحصول على مؤهل عام، وكثير من هذه النوادى ترفض انضمام خريجى التعليم الفني، والاخطر من ذلك ان القبول بالمدارس الخاصة يتطلب الحصول على مؤهل عام وليس فنى وهو ما يشير الى تحيز النظام التعليمى من البداية ضد هؤلاء. وفيما يتعلق بربط مخرجات التعليم الفنى بسوق العمل فتدلنا الخبرة التاريخية المصرية على العديد من التجارب التى كانت ناجحة، فى ذلك الوقت، مثل المعهد الفنى للسيارات التابع لشركة المصانع الكبرى، وهى التجربة التى حاول معهد العاشر من رمضان فى بداية النشأة تكرارها عن طريق ربط المعهد بالمصانع القائمة بالمدينة ولكنها ونظرا للقيم السالف الاشارة فشلت فشلا ذريعا وتحول المعهد الى مكتب التنسيق مثله مثل الآخرين. كل هذه المؤشرات وغيرها توضح لنا بما لا يدع مجالا للشك صعوبة المشكلة وتعقدها، وبالتالى تتطلب حلولا جذرية تركز على حل مشكلات الصناعات كثيفة العمالة الحالية مثل الصناعات الغذائية والغزل والنسيج والتوسع فى تسهيل بناء القواعد الإنتاجية وتعبئة الموارد المحلية واستخدامها أفضل استخدام ممكن. وذلك بتطبيق سياسات لتحفيز الاستثمار والنشاط الاقتصادي، مع العمل على إيجاد بيئة اقتصادية قوية تساعد على تلبية الاحتياجات الأساسية. والاستفادة المثلى من الطاقات المتاحة وذلك بغية امتصاص البطالة ورفع مستوى المعيشة.وتنقية المناخ الاستثمارى ليصبح اكثر قدرة على جذب الاستثمارات مما يساعد على تنشيط عجلة الاقتصاد القومى. وبالتالى زيادة فرص التشغيل وامتصاص جانب كبير من البطالة. عن طريق الاستخدام الأمثل للموارد المالية ورفع معدل الاستثمار. وحجر الزاوية هنا هو زيادة التشغيل ورفع الإنتاجية. وهذا لن يتم إلا عبر تفعيل آليات السوق وتنشيط جهاز الأسعار وتدعيم القطاع الخاص مع رفع كفاءة الدولة فى إدارة العملية الإنتاجية. لمزيد من مقالات عبد الفتاح الجبالي