اعتادت مارجريت تاتشر القول إن أغلب مشاكل القرن العشرين "خلقتها أوروبا وحلتها بريطانيا". هل هذا ما زال الرأى السائد فى بريطانيا؟ قد لا يكون السائد، لكنه بالتأكيد منتشر وسط الكثير من البريطانيين. فكل مشكلة تعانيها بريطانيا بالنسبة لهم هى بسبب الاتحاد الأوروبى ومؤسساته وفتح الهجرة أمام العمالة الاوروبية وفتح الأسواق أمام السلع الاوروبية. فما زالت بريطانيا تنظر لنفسها بوصفها "القوة الكبيرة فى أوروبا" التى بدأت كل شيء. بدأت الثورة الصناعية، والديمقراطية، والتوسع العالمى الامبريالي، والثورة التجارية. وهناك "عقدة تعالي" بريطانية تجاه القارة الاوروبية يلعب فيها التاريخ والثقافة والمصالح الاقتصادية والسياسة أدوارا متبانية، لكن المحصلة أن العلاقة مع أوروبا باتت إلى جانب الاقتصاد أهم قضيتين انتخابيتين فى الانتخابات البرلمانية المقررة غدا الخميس. فنتائج هذه الانتخابات ستكون أولا "مؤشرا" على رغبة البريطانيين فى الاستفتاء على البقاء أو الخروج من الاتحاد الاوروبي. وثانيا ستحدد شكل الحكومة أو الائتلاف الحكومى المقبل الذى سيحسم إجراء الاستفتاء على عضوية الاتحاد الاروربي. وبالتالى ليس من المستغرب أن تكون كل الأعين الاوروبية على بريطانيا هذه الأيام0. لقد بدأت العلاقة البريطانية مع فكرة "المجموعة الاوروبية" فى الخمسينيات بالكثير من الشكوك والتهوين. ومع أن بريطانيا انضمت للمجموعة الاوروبية فى نهاية الستينيات، إلا ان البداية المتعثرة هيمنت دوما على العلاقات.ففى الخمسينيات عندما كانت المانيا وفرنسا وايطاليا يبحثون فكرة "المجموعة الأوروبية"، درست بريطانيا امكانيات الانضمام. وفى اجتماع فى جنوبايطاليا، قال ممثل بريطانيا حول مشروع المجموعة الاوروبية المقترح: "هذه الاتفاقية لن يتم الموافقة عليها، وإذا تم الموافقة عليها فلن يتم التصديق عليها. وإذا تم التصديق عليها فلن تنفذ. وإذا نفذت فلن تنجح. إنها غير مقبولة بالمرة لبريطانيا...سيدى الرئيس وداعا... وحظا سعيدا". ومع ذلك تشكلت المجموعة الاوروبية وبنجاح ادهش بريطانيا، التى قدمت عام 1961 طلبا رسميا للانضمام للمجموعة الاوروبية، لكن الرئيس الفرنسى شارل ديجول صوت بالرفض على الطلب البريطاني. ثم فى عام 1967 تقدمت بريطانيا مجددا بطلب للانضمام ومرة أخرى رفض ديجول، قائلا إنه لا يمكن الثقة فى البريطانيين وأن السبب الوحيد لرغبتهم فى الانضمام هو "تدمير" مشروع الاندماج الاوروبي. فقط عندما توفى ديجول عام 1969 وأصبح جورج بومبيدو رئيسا لفرنسا، تم قبول طلب لندن. وتفاوضت حكومة المحافظين بزعامة إدوارد هيث على انضمام بريطانيا. وعندما فازت حكومة عمالية بزعامة هارولد ويلسون عام 1974، قرر إعادة التفاوض على بنود المعاهدة وأجرى استفتاء للبريطانيين حول البقاء أو مغادرة المجموعة الاوروبية 1975. وصوتت الاغلبية لصالح البقاء0. ويلاحظ سيمون هيكس أستاذ اوروبا والدراسات السياسية المقارنة فى "كلية لندن للعلوم الاقتصادية" أن حزب المحافظين بكل قياداته واعضائه كانوا مؤيدين لمشروع الوحدة الاوروبي، بما فى ذلك مارجريت تاتشر نفسها، موضحا: "كانت الرؤية للمشروع الاوروبى هو انه مشروع يمين الوسط فهو يفتح الأسواق ويساعد على انتقال رءوس الأموال بحرية ويحرر الاقتصاد. وهذا كان جذابا جدا للمحافظين الذين هم تاريخيا مع فتح الأسواق وحرية انتقال رأس المال. اما الأحزاب اليسارية فرأت ان مشروع المجموعة الاوروبية مؤامرة رأسمالية لإضعاف الأحزاب الاشتراكية فى اوروبا0". وعندما أصبحت تاتشر رئيسة للوزراء 1979، دخلت فى خلافات حادة مع الاتحاد الأوروبى حول ميزانية الاتحاد ومساهمة بريطانيا فيها. وكان لديها تحفظات على بيروقراطية الاتحاد وعلى القيود والمعايير التى يضعها على الحكومات المحلية. ورفضت أى وحدة سياسية، ورأت ان المشروع الاوروبى هو "اقتصادي" فقط. وكانت هذه بداية شكوك اليمين فى بريطانيا فى مشروع الوحدة الاوروبية0. طبعا من نافلة القول إن مشروع الوحدة الاوروبية سار فى طريقه وترك بريطانيا تتذمر وحدها على الهامش أو تطالب بتعديلات مستحيلة أو تتظاهر أنها تدعم مشروعا ما ثم تصوت ضده أو ترفض الاشتراك فيه. ففى التسعينيات عندما كانت مناقشات العملة الاوروبية الموحدة فى اوجها، وافقت بريطانيا على عملة موحدة هى اليورو تماشيا مع التيار العام فى اوروبا، لكن المؤسسات البريطانية والرأى العام كان متشككا تماما فى نجاح المشروع. وعندما اتفقت اوروبا على "اليورو" رفض وزير الخزانة أنذاك جوردون براون انضمام بريطانيا، متوقعا فشل المشروع. ومع الصدع المالي، جاء الصدع السياسى عندما شاركت الحكومة البريطانية بزعامة تونى بلير فى غزو العراق 2003 وسط رفض الدول الكبيرة فى اوروبا وعلى رأسها المانيا وفرنسا0. استكمل رئيس الوزراء البريطانى ديفيد كاميرون من حيث انتهى بلير وبراون، ففى عام 2012 ووسط الازمة الاقتصادية العالمية ومساعى انقاذ منطقة اليورو، قدمت الحكومة البريطانية إلى مجلس العموم، مشروع قانون يتضمن ان بريطانيا لن تسمح باستخدام مخصصاتها فى صندوق النقد لإنقاذ دول منطقة اليورو مثل اليونان أو اسبانيا أو ايطاليا. وساعتها كتبت الصحف الالمانية والفرنسية ان بريطانيا تفضل مساعدة الديكتاتوريات فى امريكاالجنوبية على مساعدة اليونان0. اليوم ليس لكاميرون أصدقاء كثيرون داخل الاتحاد الاوروبي، وكل مشروعات القوانين التى حاول تمريرها أو تعديلها فشلت. لكن من عدم الانصاف القول إنه المسئول الوحيد عن إتساع الفجوة مع اوروبا. فالكثير من العوامل الداخلية دفعته دفعا نحو الالتزام بإجراء استفتاء فى حالة فوزه فى هذه الانتخابات، من بينها الضغوط من قلب حزب المحافظين، وصعود اليمين القومى فى بريطانيا الذى يربط بين عضوية الاتحاد الاوروبى وبين الهجرة إلى بريطانيا والذى حصل فى الانتخابات الماضية سواء البرلمانية او المحلية او انتخابات البرلمان الاوروبى على ما بين 10 إلى 18% من أصوات البريطانيين التى تأتى غالبا من القاعدة الشعبية للمحافظين. الاتحاد الاوروبى استجاب للكثير من مطالب بريطانيا، لكن كاميرون لا يستطيع الآن التراجع عن فكرة الاستفتاء الشعبى لان هذا سيكون بمثابة انتحار سياسى لحزب المحافظين. فالكثير من البريطانيين يريد إجراء الاستفتاء، حتى من يدعمون البقاء ضمن الاتحاد. وكل الاحزاب البريطانية تقريبا باستثناء "القومى الاسكتلندي" تدعم إجراء الاستفتاء، وإن تنوعت الشروط. ف"المحافظون" يريدون مهلة تفاوض عامين مع الاتحاد الاوروبى قبل إقرار استفتاء فى 2017. و"العمال" لا يريدون استفتاء فى الدورة البرلمانية المقبلة، لكنهم يدعمون الاستفتاء إذا عزز الاتحاد الاوروبى المزيد من سلطاته على حساب الحكومات الوطنية. و"الأحرار الديمقراطيون" يدعمون الاستفتاء إذا واصلت بروكسل التمدد. و"حزب استقلال بريطانيا" (يوكيب) يريد الاستفتاء قبل نهاية هذا العام. و"القوميون الاسكتلنديون" و"الخضر" و"القومى الويلزي" يرفضون الاستفتاء ويقولون إنه "خط أحمر" أمام أى ائتلافات أو تحالفات سياسية بعد الانتخابات. وهذا يعنى ان موضوع البقاء فى اوروبا خرج من يد الحكومات البريطانية وبات بيد الدول الاوروبية الاخري، وبيد الناخب البريطانى الذى يتأرجح بين الدعم والرفض. ففى استطلاع أخير للرأى أجرته مؤسستا "يوجوف" لقياس الرأى العام و"شاثاوم هوس" البحثية، دعم 40% بقاء بريطانيا فى الاتحاد الاوروبي، فيما دعم 39% مغادرة الاتحاد. وكان لافتا أن هناك انقساما طبقيا ومناطقيا وعمريا فى نتائج التصويت. فالغالبية من السكان فى جنوببريطانيا من المنتمين للطبقة الوسطى والشريحة العليا من الطبقة الوسطى والشرائح العمرية بين العشرينيات والاربعينيات، دعمت البقاء فى الاتحاد الاوروبي، فيما غالبية سكان المناطق الشمالية، والمنتمين للطبقات العمالية والكادحة وكبار السن، دعمت الخروج من الاتحاد. ويقول سيمون هيكس موضحا:"الشباب فى بريطانيا أهم المؤيدين للمشروع الاوروبي. فهذا جيل العولمة والتواصل. أما الأكبر سنا فهم يتذكرون سنوات تاتشر والخطاب الحاد ضد اوروبا وهذا يؤثر على توجهاتهم0". الاوروبيون ينظرون لهذه الانتخابات وهم يرددون ما قاله مسئول اوروبى كبير قبل فترة:"بربطانيا وضعت يد على باب الخروج من الاتحاد الاوروبي". أو ما قاله مسئول اوروبى آخر أمس:"الانقسام الحقيقى فى بريطانيا ليس بين المحافظين والعمال. بل بين بريطانيا والاتحاد الاوروبي0". بريطانيا ما زالت مسكونة بهاجس أنها لم تكن طرفا فى مشروع الوحدة الاوروبية منذ الخمسينيات وأنها انضمت له لاحقا فى نهاية الستينيات بعدما وضعت المانيا وفرنسا القواعد والإطار العام والقوانين. بعد الاستفتاء الذى اجراه هارولد ويلسون 1975 حول بقاء أو مغادرة بريطانيا الاتحاد الاوروبي، قال أحد مستشارى ويلسون إن إدوارد هيث رئيس الوزراء المحافظ "أخذ المؤسسة البريطانية إلى اوروبا، لكن الامر يحتاج الى أن ياخذ هارولد ويلسون الشعب البريطانى إلى اوروبا".