حلقة جديدة فى مسلسل ممتد منذ عقود لنزع ملكيات صغار الفلاحين وطردهم من أراضيهم. المذهل أن السيناريو المتكرر الذى بدأ فى عهد السادات واستفحل إبان حكم مبارك يعاد الآن بحذافيره. سقط برقع الحياء وصار اللعب على المكشوف. ثورة الشعب على سياسات مبارك بكل ما خلفته من فقر وفساد وتفكيك للبنية الانتاجية تحولت على أيدى أنصاره إلى مجرد مؤامرة خارجية! ثورة 30 يونيو التى لجأ فيها الشعب إلى جيشه لإزاحة قوى الظلام التى اختطفت ثورته وهددت استقلاله الوطني، تحولت بالنسبة لنظام مبارك إلى إيذان بإغلاق صفحة الثورة والثائرين والشعب ومطالبه، وإعلان بأن »نظامنا قد رد إلينا« وسنفعل ما بدا لنا ولن نبالى بستر عوراتنا ولو بورقة توت. عندما تجد أن الهجوم على الفلاحين واستخدام القوة لطردهم من أراضيهم يجرى على قدم وساق وبكل همة ونشاط فى محافظاتالفيوم والبحيرة والدقهلية والإسكندرية فى وقت واحد، تتأكد أن الأمر لا يمكن أن يكون وليد المصادفة. عندما تكتشف أن أجهزة الدولة التنفيذية سواء على مستوى المحافظات أو الشرطة أو وزارة الأوقاف تمثل أطرافا أصيلة ومتكررة فى كل الوقائع، تستنتج أن نزع ملكيات صغار الفلاحين يمثل استراتيجية مرسومة وهدفا واضحا لا تخطئه عين. طبعا لأول وهلة ستظن، كما فعلت أنا، أن الأمر يتعلق بحالات تأخر الفلاحين عن دفع إيجارات الأراضى وتراكم المديونيات للملاك أو البنوك بحيث ينتهى الأمر إلى إنهاء عقد الإيجار أو الحجز على الأرض لاستيفاء المديونية. وعلى الرغم أن ظنى وظنك كليهما فى محله، إلا أنه يمثل جزءا صغيرا من الصورة الكاملة. فالأمر لا يقتصر على فلاحين توالى عليهم رفع إيجارات الأراضى وأثمان الأسمدة ومستلزمات الإنتاج جنبا إلى جنب مع تراجع أثمان المحاصيل وقت الحصاد ليخرجوا فى نهاية كل موسم خاسرين ومحملين بالديون وعاجزين عن السداد. من منا لايتذكر كيف قامت وزارة الأوقاف فى منتصف عام 2014 برفع إيجار الفدان فى الأراضى الزراعية التى تديرها من ألف جنيه إلى أربعة آلاف جنيه دفعة واحدة، وكيف قامت فى شهر نوفمبر من العام نفسه بتوجيه إنذارت طرد لآلاف الفلاحين المتأخرين فى السداد؟ ومع ذلك فإن حالات طرد الفلاحين تتعلق بالأساس بنزع ملكيات أراض قاموا بدفع ثمنها بالكامل على مدى عقود طويلة وتوارثوها منذ آلت إليهم بموجب قوانين الإصلاح الزراعي، ويطردون الآن منها بالقوة الجبرية إما لحساب الأسر الاقطاعية القديمة أو لحساب جمعيات إسكان تابعة «لجهات سيادية»! العقود والوثائق الرسمية التى تثبت ملكية الفلاحين للأراضى لا تجدي. أحكام القضاء التى تنتصر لهم وتؤكد أحقيتهم بملكية الأرض لا تجدي. وكأن الأمر ثأر قديم مع الفلاحين ومع قوانين الإصلاح الزراعى ، وإصرار على محو كل آثارها. السيناريو المتكرر لنزع الملكيات هو الطرد الجماعى باستخدام القوة لمئات الفلاحين ذوى الملكيات الصغيرة التى لا تزيد فى معظم الأحوال على فدان أو اثنين، ولكنها تمثل فى مجموعها مساحات كبيرة من الأرض تصل إلى عشرت وأحيانا مئات الفدادين. استخدام القوة يتم إما بتأجير بلطجية تابعين للإقطاعى القديم الذى يريد إعادة الاستيلاء على الأرض أو الرأسمالى الجديد الذى قام بشراء الأرض بعقد مزور بمعرفة أحد المحامين محترفى عمليات الاستيلاء على الأراضي، أو لحساب جمعية إسكان تابعة لأحدى الجهات السيادية النافذة التى اشترت الأرض بعقد عرفى من الأوقاف، رغم كل أحكام القضاء بملكية الفلاحين للأرض. فى كل السيناريوهات تدخل الشرطة لترهيب الفلاحين الذين يمتنعون عن ترك الأرض وتلفيق الاتهامات بالاعتداء على «صاحب الأرض» وإتلاف الممتلكات، بل وسرقة المحاصيل.. التى تخص الفلاح نفسه!. حكايات الفلاحين لا تنتهى عن التنكيل البدنى بأمهات وزوجات من يقاوم التنازل عن الأرض. الفلاحون يعرفون أسماء من يقومون بذلك وعلاقتهم بمن يجرى انتزاع الأرض لحسابه، كما يعرفون مساحة الأراضى «المكافاة» التى حصل عليها البعض مقابل خدماتهم! طبعا المنظرون لاقتصاد السوق يمكنهم التحدث صراحة عن أن كل عمليات التطور والتحديث التى تمر بها البشرية يكون لها بعض الضحايا، كما يمكنهم أن يشنفوا آذاننا بالحديث عن الكفاءة الانتاجية المرتفعة للمزارع الرأسمالية الكبيرة القادرة على استخدام الميكنة والتقنيات الزراعية الحديثة. فلا غضاضة إذن فى تحويل صغار الملاك إلى معدمين يعملون فى المزارع الرأسمالية الكبيرة ذات الإنتاجية العالية.. فهذه ضريبة التطور! إلا أن التجربة التاريخية تؤكد أن التطور ورفع الإنتاجية الزراعية يمكن أن يحدث دون سحق الفلاحين. قوانين الإصلاح الزراعى فى مصر على سبيل المثال اقترنت بتطبيق الدورة الزراعية، بما يكفل تحديد مساحات واسعة محددة من الأراضى لزراعة محصول معين، وبالتالى إمكان التعامل مع تلك المساحات الكبيرة كوحدة واحدة من حيث استخدام الميكنة والتقنيات الحديثة، بغض النظر عن تعدد الملاك. وتكتمل المنظومة بانضمام هؤلاء الملاك إلى جمعيات تعاونية مهمتها توفير مستلزمات الإنتاج والتمويل الرخيص للفلاحين والتسويق الجماعى لمحاصيلهم. إلغاء الدورة الزراعية، واختفاء الدور الحقيقى للجمعيات الزراعية هو الذى أفرز كل مشكلات تفتت الملكية والحيازات القزمية. الكارثة الحقيقية هى أن تجريد صغار الفلاحين من حيازاتهم لا يتم أصلا بغرض التطوير الرأسمالى للزراعة ورفع انتاجية الأراضى فى الدلتا. الأراضى يتم تبويرها وتنتزع لإقامة مجمعات سكنية ومولات تجارية. سحق وتشريد الفلاحين فساد وظلم بين و تدمير للزراعة المصرية. لمزيد من مقالات د. سلوى العنترى