كشف حادث وفاة أكثر 900 شخص غرقا في مياه البحر المتوسط مؤخرا قبالة السواحل الشمالية الليبية وجنوب جزيرة لامبيدوزا الإيطالية عن أحد أكثر المشاهد المأسوية لظاهرة الهجرة غير الشرعية إلى السواحل الأوروبية. فلا تزال تلك الظاهرة تدفع الكثيرين ممن يحدوهم الأمل في تحقيق الهدف المنشود للسفر إلى أوروبا "أرض الأحلام" لإنهاء فصلا من حياتهم والبدء في جديد لعله أن يكون أفضل من واقع مرير يعيشونه الآن في بلدانهم. وفي تصريحات مخيفة، تكشف المنظمة الدولية للهجرة عن أن أكثر من 1750 مهاجرا لقوا مصرعهم في مياه المتوسط منذ مطلع العام الجاري، وتقول أيضا إن هذا الرقم يزيد ب30 ضعفا عن حصيلة الفترة ذاتها من العام الماضي. وتخشى المنظمة أن تتجاوز حصيلة ضحايا ظاهرة الهجرة غير الشرعية عتبة ال30 ألف قتيل بحلول نهاية العام الجاري، وذلك استنادا إلى الحصيلة والمؤشرات الحالية التي أكدت من خلالها شرطة المواني اليونانية أن عام 2015 بدأ بارتفاع ملحوظ في أعداد المهاجرين، حيث تم تسجيل اعتراض أكثر من 10 آلاف منهم مقابل أقل من 3 آلاف فقط في الفترة ذاتها من العام المنصرم، فضلا عن اعتراض أعداد كبيرة أخرى في إسبانيا وبلغاريا ورومانيا. ويسلك المهاجرون أكثر من طريق للموت في سبيل الوصول لأوروبا. وتشكل إيطاليا واليونان وبلغاريا وإسبانيا منافذ الدخول الرئيسة إلى دول الاتحاد الأوروبي الأخرى بالنسبة لهؤلاء المهاجرين الذين بلغ عدد من وصل منهم إلى إيطاليا منذ مطلع العام الجاري وعبر المتوسط أكثر من 20 ألفا، ويأتي غالبيتهم من إريتريا والصومال وسوريا ومناطق الحروب المشتعلة والصراعات الداخلية مثل ليبيا وغيرها ممن بلغ عددهم خلال العام الماضي 170 ألفا. ويعد هذا الرقم قياسا مقارنة بنظيره الذي لم يتعد سوى 43 ألفا فقط خلال 2013. وتاريخيا، تعد ليبيا، التي لا تبعد سواحلها عن جزيرة"لامبيدوزا" الإيطالية أكثر من 300 كيلو مترا، بلد عبور للمهاجرين الأفارقة إلى أوروبا، خاصة وأنها تشارك بحدود برية بطول حوالي 5 آلاف كيلومتر مع مصر والسودان والنيجر وتشاد والجزائر وتونس. وكان القذافي يطالب أوروبا بدفع 5 مليارات يورو سنويا من أجل مراقبة الحدود الليبية ومكافحة الهجرة غير الشرعية من خلالها، لكن منذ سقوط نظامه الذي تفسخت معه كافة مؤسسات الدولة أصبحت ليبيا أكبر مركز لعمليات التهريب التي لا يشعر تجار البشر فيها بتأنيب الضمير خاصة في ظل إفلاتهم من العقاب. وتعد تلك الحوادث في مجملها مأساوية وبكل المقاييس، خاصة وأنها متكررة وقديمة وليست وليدة اللحظة الراهنة، كما أن كافة الأطراف المعنية بها والمسئولة عن إنهائها حتى اللحظة الراهنة لم تنجح بعد في إيقافها بشكل أو بآخر، مما يؤكد أنها باتت تمثل خطرا متزايدا على الدول التي يتم الهجرة منها والأخرى التي يتم الهجرة إليها على حد سواء، مما يستتبع اتخاذ الطرفين لإجراءات فاعلة وفعلية للحيلولة دون استمرار هذه المأساة الإنسانية بأي ثمن ممكن. وعلى طريق الحل، تباينت ردود الأفعال والرؤى العالمية وأيضا الخطط والاستراتيجيات المطروحة لإنهاء هذه الأزمة لا سيما من قبل الأوساط الرسمية الأوروبية. وتسعى هذه الخطط في مجملها إلى التصدي لظاهرة الهجرة غير الشرعية من خلال عدم تمكين هؤلاء المهاجرين من الوصول إلى الشواطيء الأوروبية بدلا من التركيز وبامتياز على القضاء على الأسباب الكامنة ورائها، والمتمثلة في كون دول هؤلاء المهاجرين طاردة لهم وغير قادرة على جذبهم لافتقادها المقومات التي تحظى بها غيرهم. وهكذا تظل هذه الاستراتيجيات في النهاية مجرد حلا لعرض وليست علاجا لكامل مرض، وردود فعل القادة الأوروبيين توضح ذلك : ففي باريس، دعا الرئيس الفرنسي فرانسوا أولاند الأوروبيين والمجتمع الدولي إلى اتخاذ التدابير اللازمة لمنع تكرار حوادث غرق المهاجرين في المتوسط، معتبرا أن الأمر بات غير محتمل على الصعيد الأمني والسياسي. وفي برلين، أكدت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل أن "حكومتها ستبذل قصارى جهدها لمنع مقتل مزيد من ضحايا الهجرة بشكل مؤلم في البحر المتوسط على عتباتنا"، وتقول إنه "يتعين علينا أن نكثف جهودنا". وفي أثينا، حث كوستاس إسكوهوس نائب وزير الدفاع اليوناني ما سماه بقوى أوروبا الكبرى للاضطلاع بمسئوليات أكبر في إنهاء هذه الأزمة. وفي سيدني، حث رئيس الوزراء الأسترالي توني أبوت أوروبا على تبني سياسات قوية للغاية لإنهاء الاتجار بالبشر عبر المتوسط، مؤكدا أن "السبيل الوحيد الذي يمكنكم به وقف الخسائر في الأرواح هو وقف تجارة تهريب البشر". وفي الولاياتالمتحدة، اعتبرت صحيفة "واشنطن بوست" الأمريكية أن إيطاليا وغيرها من الدول الأوروبية عليها التزام بمنع كارثة إنسانية بسبب أزمة المهاجرين الأفارقة. ونقلت الصحيفة عن رئيس الوزراء الإيطالي ماتيو رينزي قوله "إن السبيل الوحيد لوقف طوفان المهاجرين الأفارقة الساعين لطلب اللجوء في أوروبا هو تحقيق السلام بين القبائل الليبية". ووسط كل هذا الطرح والتعاطي السياسي بشأن القضية، عقد قادة الاتحاد الأوروبي الخميس الماضي في بروكسل قمة طارئة استثنائية اتفقوا خلالها على شن عمليات عسكرية في البحر المتوسط لضبط وتدمير القوارب الصغيرة والمتهالكة قبل تحمليها بالمهاجرين من خلال استهدافها بضربات جوية على غرار عملية "أتلانتا" لمكافحة القرصنة قبالة السواحل الصومالية. ومن جانبها، أعلنت ناتاشا بيرتاود المتحدثة باسم المفوضية الأوروبية تأييدها لهذه العملية العسكرية المقترحة، وقدمت بشأنها خطة مكونة من 10 نقاط لتفادي تكرار تلك مثل هذه المآسي تتضمن تعزيز عمليتي المراقبة والإنقاذ المعروفتين باسم"تريتون" و"بوزيدون" واللتين تنفذهما وكالة "فرونتكس" الأوروبية لمراقبة الحدود من خلال زيادة إمكانياتهما المالية ومعداتهما. كما سيتم توسيع منطقة عملهما المحددة حاليا بالمياه الإقليمية لدول الاتحاد الأوروبي، فضلا عن ضبط مراكب المهربين وتدميرها. وتتضمن الخطة أيضا تعزيز التعاون بين المنظمات "يوروبول" و"فرونتكس" و"إيزو" و"يورجاست" لجمع المعلومات حول خطط تحرك المهربين، ونشر فرق تابعة للمكتب الأوروبي لدعم اللجوء في إيطاليا واليونان للمساعدة في إدارة طلبات اللجوء. وتشمل الخطة كذلك أخذ بصمات كل المهاجرين بعد وصولهم إلى الأراضي الأوروبية، ودراسة خيارات عدة لقيام توزيع أكثر توازنا للاجئين بين الاتحاد الأوروبي، وإنشاء برنامج لإسكان من تمنحه المفوضية العليا للاجئين صفة لاجيء بأي من دول الاتحاد. وتهدف هذه الاستراتيجية كذلك إلى إنشاء برامج تهتم بإعادة المهاجرين الذين لم يتم السماح لهم بالبقاء في الاتحاد الأوروبي. وستقوم "فرونتكس" بإدارة هذا البرنامج بالتعاون مع الدول الأوروبية المتوسطية التي تستقبل المهاجرين، فضلا عن التنسيق مع الدول المجاورة لليبيا لإغلاق الطرق التي يستخدمها المهاجرون، بالإضافة إلى إرسال ضباط لهم علاقة بشئون الهجرة إلى بعثات الاتحاد الأوروبي في عدد من الدول التي سيتم تكليفهم بجمع معلومات فيها حول تدفق المهاجرين منها إلى أوروبا. وفي النهاية، لا يمكن أن تقتصر آلية القضاء على تلك الظاهرة على مجرد تفكيك شبكات وخلايا مافيا تجارة الموت من خلال مجرد القبض عليهم أو حتى تدمير قواربهم وسفنهم التي يستخدمونها في نقل المهاجرين. كما لا يمكن أيضا أن ينحسر الحل في تكثيف جهود الإغاثة الأورو - أمريكية لإنقاذ المهاجرين في حالة تعرض أي منهم لأي خطر وليس لمجرد الغرق. ويكمن حل المشكلة في اجتثاثها من كامل جذورها من خلال إسهام المجتمع الدولي بأسره ولاسيما تلك الدول المتضررة من لجوء هؤلاء المهاجرين إليها في تحقيق الاستقرار في منطقتي الشرق الأوسط وشمال أفريقيا حتى لا يفر منهما أبناؤهما. ويتحقق ذلك من خلال قيام الدول الأوروبية، بضخ مساعدات واستثمارات ضخمة في دول هاتين المنطقتين تسهم في توفير فرص عمل وحياة كريمة تمنع المهاجرين من ترك بلدانهم، فضلا عن حتمية المشاركة الأوروبية الفاعلة في حل قضايا الصراع داخل كافة دول المنطقتين أيضا بدلا من قيامها بتأجيجها أحيانا للاستفادة منها في زيادة مبيعات السلاح. ولعل البداية الأكثر توفيقا هي ليبيا تحديدا، عبر تمكين الحكومة الشرعية هناك من أداء مسئولياتها في حماية حدودها، لأن أي حل لا يبدأ من هذا الطريق، لن يكون مجديا.