تحقيق: ماري يعقوب حالة من الصدمة والحزن العام خيمت علي جموع المواطنين الذين اصطفوا بالآلاف داخل وخارج الكاتدرائية بالعباسية.. منذ إعلان نبأ وفاة البابا, الكل يأمل في إلقاء النظرة الأخيرة علي الجثمان.. وعلي الرغم من تجاوز الوقت منتصف الليل وخروج الأنبا موسي, أسقف عام الشباب, إلي الشرفة ومخاطبة الجموع التي ضاقت بها ساحة الكاتدرائية بالمغادرة مؤقتا حتي الصباح وحتي انعقاد المجمع المقدس وعمل الترتيبات المناسبة لاستقبال جموع المواطنين لإلقاء نظرة الوداع. وبرغم طمأنته لهم بأن المدة تسمح للجميع بالزيارة التي ستستمر ثلاثة أيام وحتي تحديد موعد الجنازة, حيث سيتم دفنه بعد ذلك حسب وصيته بدير الأنبا بيشوي بوادي النطرون.. وبرغم ذلك لم يلتزم الجميع بالمغادرة وافترش البعض أرض البهو مرددين الصلوات والدعوات حتي الصباح. أطياف من البشر علي مختلف الفئات عجت بهم الشوارع المحيطة حتي أغلقت الممرات المؤدية إلي الكاتدرائية وشلت حركة المرور.. داخل الكاتدرائية شيوخ بعمائمهم وسياسيون وكثير من أفراد المؤسسة العسكرية والشرطة.. ولكن لا أحد ينتبه ولا يهتم.. الكل تتعلق نظراته بمبني الأسقفية.. مجموعة من الشباب اقتربت منهم يتجادلون حول اختيار خليفة للبابا.. أحدهم يقول: الأنبا يؤانس هو الأصلح, بينما يعقب عليه آخر بأن الأكثر مناسبة منه هو الأنبا مينا, رئيس دير مارجرجس الخطاطبة.. ويأتي ثالث بأن الأنسب من الاثنين هو الأنبا موسي أسقف عام الشباب.. وكل رأي له مبرراته, وأخيرا اتفق الجميع علي أن الاختيار الإلهي سيكون حتما الأصلح للكنيسة ولمصر. بطرس وديع طبيب وكان يقف مع عدد من النساء الباكيات والذي كان ينصحهن بقوله: لا تحزنوا كالذين ليس لهم رجاء.. وعندما سألته: ألست حزينا مثلهم؟.. قال: هذه إرادة السماء ولا يمكننا الاعتراض.. ومع ذلك هو كان صمام الأمان, وعلي الرغم من القلق الذي يجتاحنا لأنه الأب, وهذا هو موقعه في قلب كل مسيحي.. ويجب أن نرفع الصلاة إلي الله حتي يعوضنا بخليفة له محبا لهذا الوطن, مثلما كان البابا شنودة يحب تراب وشعب هذا الوطن بمسيحييه ومسلمييه.. ولنتذكر مقولته: ربنا موجود.. كله للخير.. مسيرها تتحل. ويري شريف روفائيل أن نطلب من الله أن يعوضنا بشخصية تخلفه قريبة في تكوينها منه لتكملة المسيرة, خاصة أنه فارقنا في مرحلة حرجة كنا في أشد الحاجة فيها إليه.. والخليفة الذي نطلبه من الله أن يكون شخصية تؤكد الحماية.. لا تكون استبدادية, وفي الوقت نفسه لا تكون مهادنة, خاصة في المسائل الروحية والتي تمس العقيدة. ويري نادر رءوف أن الكنيسة المصرية تمر في هذه الفترة شأنها شأن مصر كلها بحالة من الصراع الحضاري.. ويأتي فقد البابا شنودة في هذا الوقت في غير مصلحة الأمة المصرية التي تحتاج إليه كمصري صميم, فقد كان رجل دين ورجل سياسة في الوقت ذاته, وكنا نحتاج إلي حكمته في هذه الفترة العصيبة في إدارة دفة الأحداث. ويضيف منير حبيب مهندس: الكنيسة المصرية الأرثوذكسية هي كنيسة مصر بامتياز وحتي النخاع ولها تاريخ من البطاركة المتعاقبين يمثلون مفصل من مفاصل التاريخ المصري, ولأنها تمثل القوة الناعمة في قلب الدولة المصرية, فإننا نرفع الاصوات ونثق أن السماء ستجود بخليفة لا يقل وطنية وحكمة عن المتنيح البابا شنودة. أما رزق الله منصور فيقول: يجب ألا يغيب عنا التفاؤل, فالصلاة تحقق الطلبات ونحن نصلي يوميا في كنائسنا من أجل شعب مصر والحكام, وحتي الزروع ونبات الأرض والمياه والمطر وغيره, وهذا يجعل لنا رجاء في أن يعوض مصر بشخصية تسهم في قيادة شعب مصر إلي غد أفضل. وتري دكتورة ليليان سمعان أن مصر ولادة, برغم أن البعض حزين وغير متفائل لأن المرحلة صعبة.. وخاصة لأن حتي شخصية البابا المتنيح الأنبا شنودة لم يتفق عليها الجميع, فالبعض اتهمه بالاستحواذ السياسي أو التطرف, بينما اتهمه البعض الآخر بالتهاون والتراخي.. وكل هذه ضغوط كان يحملها دون أن يبوح بتأثيراتها النفسية عليه, وأيضا لو تأملت كل هذه المعاناة سنتأكد مدي مسئولية الكنيسة المصرية في قيادة الدفة في الأزمات.. ويدلل علي ذلك بقوله: لا ننسي موقف البابا شنودة في مواجهة السادات باقتدار إبان كامب ديفيد عندما رفض الذهاب معه إلي القدس وعارض كامب ديفيد, ولا ننسي أنه طالب الأقباط بعدم الذهاب إلي القدس إلا مع إخوانهم المسلمين كمنتصرين, وأدي ذلك إلي أن عاقبه السادات بإبعاده إلي الدير واتهمه بأنه زعيم سياسي.. برغم أنه زعيم وطني في المقام الأول.. استطاع أن يجسد في شخصه مشروع كامل للوطن والكنيسة.. ولم يتراجع. وتقول نادية ألبرت: البابا لم يكن صداميا كما كان يعتقد البعض, ولكنه كان مدرسا ومحللا لكل ما يحدث حوله.. وخسارتنا فيه مضاعفة, لأن وطننا في أزمة.. من هنا يكتنفنا الخوف, المسلمون قبل المسيحيين من غموض المرحلة المقبلة, ونطلب من الله بشفاعته أن يوفق مصر إلي خليفة حكيم له نفس حكمة البابا شنودة فيما يخلقه من توازن بشكل عام وفي قيادة الكنيسة بشكل خاص حتي نتخطي هذه المرحلة الحرجة. وبين جموع المواطنين كان هناك بعض المشاهير مثل نجيب ساويرس والمستشار نجيب جبرائيل, الذي عبر بقوله: إن مصر فقدت رجلا وطنيا يمثل صمام الأمان كثيرا ما كان يقوم بوأد الفتن.. وفقدنا رجلا كان مدافعا عن القضية الفلسطينية.. فلم يكن رجلا عاديا, بل كان مسكونيا فهو عضو بمجلس الكنائس العالمي, يحظي بحب دولي وعمق يمكن أن يملأ الفراغ الذي تركه يقول: لا أعتقد أنه موجود في الفترة الحالية من يملأ هذا الفراغ.. فشخصية البابا تميزت بالحكمة والثروة الفكرية والذهبية.. كان كنزا من العلوم والثقافة والروحانيات وفوق ذلك كان زاهدا ومبتسما. ويضيف: هذا الرجل قدم رسالة حب لم يقدمها أحد من قبل, فهو الذي قام بدعوة السلفيين في عيد الميلاد وهي رسالة حب لم يسبقه إليها أحد من الكنيسة, أزالت الخوف والترقب من نفوس كثير من أبناء الكنيسة في النهاية يردد الشعب ربنا موجود.