جاء اتفاق لوزان الإطارى بين إيران ومجموعة دول (5+1) بقيادة أمريكية، بشأن الملف النووى الإيرانى ليعكس- رغم الخلاف حول تفسير ما ورد فيه من بنود - نجاحا إيرانيا واضحا فى تحقيق انفراجة نوعية فى أكثر ملفاتها الخلافية عمقا وتأزما مع الغرب، بفضل سياسة النفس الطويل التى انتهجتها خلال السنوات الماضية على أكثر من صعيد. بعد مفاوضات ماراثونية استغرقت 18 شهرا، وتأزما دام ما يجاوز ال 12 عاما، فيما مثل الاتفاق الإطار خطوة أولى لاتفاق نهائى يزمع التوقيع عليه فى 30 يونيو القادم، إذا ما ألتزمت أطراف الاتفاق الإطارى بما ورد فيه من بنود، أى بعد أقل من ثلاثة أشهر من الآن ستعد هذه الفترة بمثابة اختبار حقيقى للنوايا والجدية لإيران فى المقام الأول وللغرب فى المقام الثانى. أوراق الضغط وقد خرج الاتفاق، بلا بنود سرية، أو مفاجآت، حيث سادت تكهنات قبل توقيعه بوجود تفاهم بين أطراف الاتفاق حول النقاط الأساسية التى يجب تناولها فيه، فى ظل مواءمات سياسية بين هؤلاء الأطراف فرضها الظرف الإقليمى الحالى، الذى سعت طهران لأن تكون لاعبا أساسيا فيه، بشكل خدم إلى حد كبير المصالح الغربيةوالأمريكية فى المنطقة، الأمر الذى يشير فى مضمونه أيضا إلى تفوق طهران فى استخدام أوراق الضغط والتفاوض التى استطاعت تجميعها أو حتى أُسقِطت فى يديها خلال الفترة الماضية، والتى من الصعب التوقع بأن تتخلى إيران عن أى منها بسهولة. وفى هذا الإطار، يطرح الاتفاق الإطارى تساؤلات عدة ليس فقط حول المكاسب التى تحققت وستتحقق لإيران من ورائه، وإنما أيضا حول انعكاساته على توجهات إيران الإقليمية، وهل ستتجه هذه السياسة فى ظل ما تحقق لطهران من الاتفاق إلى المهادنة أم مزيد من الصدامية والتشدد إزاء دول الإقليم؟ الحلم الجامع للبرنامج النووى إيرانى حضور قوى وأساسى فى ذهنية صانع القرار فى إيران، كما يعد محددا مهما فى أولويات السياسة الخارجية الإيرانية، ولا يعد من قبيل المبالغة القول بأن تحركات طهران الخارجية تأتى فى إطار خدمة الملف النووي، وتقوية الموقف التفاوضى للبلاد مع القوى الكبري. كما يعد أحد أهم نقاط قوة تماسك الداخل الإيراني، إذ يعد هذا البرنامج بمثابة “الحلم الجامع” لأطياف المجتمع. وقد تمكنت إيران على مدى السنوات الماضية من تحقيق تراكم من النفوذ الفاعل فى بعض دول الإقليم، واستطاعت أن تكون رقما صعبا ومعقدا فى العديد من قضايا المنطقة، مستفيدة بشكل لا يخلو من البراعة من أخطاء الولاياتالمتحدة فى معالجة كثير من أزمات الإقليم، من ناحية، والأخطاء التى وقعت فيها الدول العربية، من ناحية أخري. ولعل الحرب على الإرهاب التى أعلنتها الولاياتالمتحدةالأمريكية فى أعقاب 11 سبتمبر 2001، قد أتاحت للنظام الإيرانى الفرصة فى إحياء حلم “الريادة الإقليمية” الذى واجه مقاومة دولية وإقليمية جعلته فى طى التجميد إلى ذلك الحين، لاسيما عندما وجدت واشنطن نفسها مضطرة للتنسيق مع إيران فى حربها فى أفغانستان، ثم طلب المساعدة للخروج من مستنقع العراق بعد حربها عليه عام 2003. فقد توالت بعد ذلك محاولات توسيع النفوذ الإيرانى فى عدد من دول المنطقة، سواء كان ذلك من خلال استغلال المظلوميات ودعم بعض الجماعات “المستضعفة” وهو التعبير الذى صكه دستور إيران الثورة فى مواجهة “المستكبرين” فى الأنظمة الاستبدادية – وفق رؤيتها- فدعمت الشيعة فى البحرين، والحوثيين فى اليمن. أو من خلال إقامة تحالفات مع بعض أنظمة المنطقة والفاعلين من غير الدول، مثل التحالف مع نظام الأسد فى سوريا، وحزب الله اللبناني، وحركة حماس. فيما استطاعت إيران توظيف أخطاء الدول العربية فى إدارة العديد من مشكلات المنطقة. وإلى جانب الفرص التى استطاعت إيران توظيفها، يأتى منعطف ظهور تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” فى العراقوسوريا، ليمثل التطور الأبرز فى تلاقى المصالح الإيرانية مع مصالح الولاياتالمتحدةالأمريكية فى المنطقة، عندما استطاعت طهران تحقيق نجاحات فى دحر تمدد التنظيم فى العديد من المدن العراقية، من خلال دعمها لتنظيم “الحشد الشعبي” ومساعدة الجيش النظامى العراقي. فى وقت تراجع فيه التأثير الأمريكى فى المنطقة من حيث النطاق والكيفية، وكذلك أفول نجم تركيا وتراجع دورها الإقليمى بشكل واضح خلال العامين الماضيين. شرطى المنطقة عمل النظام الإيرانى على مدى السنوات الماضية إلى تحقيق حلم لعب دور «شرطى الخليج» غير أن الأخير قد توسع فى حلمه للعب دور «شرطى المنطقة» بأسرها، ويأتى الاتفاق النووى ليسهم فى تقريب هذا الحلم، فخلافا لما جرت عليه العادة من إنكار النظام الإيرانى لوجوده العسكرى فى دول المنطقة، يلاحظ تكرار وسائل الإعلام الإيرانية على نشر صور الجنرال قاسم سليمانى “قائد فيلق القدس” وهو يتنقل بين الجبهات من تكريت إلى درعا وبيروت، فى طريقة استعراضية لدور إيران فى هذه المناطق، فى رسالة تأكيدية للقوى الإقليمية والدولية على امتداد أذرع إيران بشكل بات يطوق المنطقة. وعلى الرغم من أن الاتفاق الإطارى لا يعدو فى نظر بعض المحللين كونه «اتفاق لاختبار النوايا» بين طرفيه – إيران من ناحية والغرب من ناحية أخرى - فإنه لا يمكن غض الطرف عن الدور الذى لعبه نفوذ إيران فى الإقليم فى تقوية موقف طهران فى التفاوض، والذى بسطته إيران بمهارة حائك السجاد. لاسيما وأن الاتفاق قد خلا من أى ربط للملف النووى الإيرانى بالدور الذى تلعبه إيران فى العديد من قضايا الإقليم، وما يصدر عنها من ممارسات تضر بحلفاء الولاياتالمتحدةالأمريكية فى المنطقة، وبالتالى يتوقع أن يكون للاتفاق النووى تأثير ما على التوجهات الإيرانية للإقليم بشكل عام، ودول جوارها بشكل خاص، لاسيما وأن الثلاثة أشهر القادمة تعد مهلة ليس فقط لإثبات حسن النوايا، وإنما لإعادة ترتيب أوراق التفاوض وتقويتها، وإيجاد المزيد منها. فعلى الأرجح سيعقب الاتفاق وما سيتبعه من مفاوضات قبل الوصول للاتفاق النهائى فى نهاية يونيو القادم، ترتيبات عدة إزاء قضايا أشمل يأتى على رأسها مواقع النفوذ الإيرانى فى منطقة الشرق الأوسط. ويمكن الإشارة إلى عدد من العوامل التى تصب فى خانة تعزيز هذا الاتجاه، فيما يلي: 1- بموجب الاتفاق الموقع بين الغرب وإيران سيتم تجميد البرنامج النووى الإيرانى لمدة لا تقل عن عشر سنوات، فى مقابل رفع العقوبات الغربية عن إيران، التى كبلت الاقتصاد الإيرانى لسنوات طوال، فيما لم تستطع تكبيل السياسية الإيرانية التوسعية، بمعنى أخر سيعمل رفع العقوبات على إطلاق يد إيران بشكل أكبر بعيدا عن مشكلات الداخل الناتجة عن سوء الوضع الاقتصادى وتردى أحوال المعيشة. ومع التسليم بأهمية ومحورية البرنامج النووى بالنسبة للنظام الإيراني، فإن الحصول على الشرعية الدولية للبرنامج من خلال خضوعه للمراقبة الدولية من قبل الوكالة الدولية للطاقة الذرية بموجب الاتفاق يعد تعويضا لا بأس به لإيران التى باتت تدرك أن الخطر المحدق بها على الحدود الناتج عن وجود الجماعات «السنية المتطرفة» فى العراقوأفغانستان وباكستان، وكذلك الصراعات الطائفية التى تهدد مستقبل حلفائها التقليديين وعلى رأسهم النظام السوري، قد أصبح أهم من وجود رادع نووى آنى لمواجهة الولاياتالمتحدة وإسرائيل، الأمر الذى يستتبع حرصا إيرانيا مضاعفا على حماية مصالحها فى المنطقة وبالتالى تعزيز وجودها ودورها المتجزر بالفعل فى العديد من دول وقضايا الإقليم. صفر تنازلات 2- إن القائمين على إدارة الملف النووى فى الداخل يدركون أن تقديم تنازلات أخرى خارج هذا الملف وتتصل بالوجود الإيرانى على الساحة الإقليمية من شأنه إضعاف موقفهم فى مواجهة معارضيهم، فعلى الرغم من المرونة التى بدت فى الخطاب السياسى للرئيس الإيرانى حسن روحانى تجاه دول الجوار، وقضايا المنطقة ككل، لم تنعكس هذه المرونة بشكل كبير فى تعامل إيران فى العديد من الملفات، فلم يشهد موقفها من النظام السورى تغييرا، كما لم يتغير موقف طهران من شيعة البحرين، ولم تتخل عن وكلائها فى المنطقة، على الرغم من الخلاف الحاد مع دول الجوار الناتج عن هذه الممارسات الإيرانية. كما تضع إيران نصب أعينها مآل الاتحاد السوفيتى السابق عقب تخفيض برامجه النووي، وبالتالى ستعمل على تجنب مسببات تفككه، والتى يأتى على رأسها الانفتاح على الغرب، لاسيما فى ظل ضعف تأثير رجال الدين على فئات الشباب فى المجتمع الإيراني، وفى الوقت نفسه تراجع وهج مفاهيم الثورة الإسلامية، وبالتالى سيعمل النظام على الحفاظ على مكتسباته الخارجية لتعزيز مكانته داخليا. البرجماتية الإيرانية 3- أن البرجماتية التى أدارت بها إيران ملفها النووى مع دول (5+1) بقيادة الولاياتالمتحدةالأمريكية التى يعتبرها النظام الإيرانى «الشيطان الأكبر» و»دولة الاستكبار العالمي»- وفق تعبيراته- وترويجه على مدى ثلاثة عقود لثقافة تحدى الولاياتالمتحدة ومحاربة إسرائيل، تنبأ بأن هذه البرجماتية ستكون المحرك الأبرز لإيران إقليميا وفق مصالحها التى تقتضى حاليا وخلال المستقبل القريب قبل الاتفاق النووى النهائى الحفاظ على أوراق الضغط الإيرانية، وتقويتها، وبالتالى الحفاظ على العلاقة الجيدة مع حلفائها ووكلائها التقليديين والجدد فى المنطقة. والاستمرار فى إدارة الملفات الخلافية وفق نظرية حافة الهوية، التى أجادتها خلال السنوات الماضية، فلم يمنع الاتفاق إيران على سبيل المثال من الإعلان عن تحرك مثير للجدل على الساحة اليمنية، وذلك من خلال توجيه قطع بحرية إيرانية، إلى مضيق باب المندب وخليج عدن بهدف «صون مصالح إيران فى المنطقة،» حسب ما تناقلته وكالة أنباء «فارس» المحسوبة على النظام. وبحسب تصريحات قائد القوة البحرية للجيش الإيرانى الأدميرال حبيب الله سياري، فإن مهمة القطع البحرية الإيرانية تستغرق نحو ثلاثة أشهر. فيما تشير دلالات هذه الخطوة الإيرانية على عدم تخلى إيران عن مكاسبها التى تحققت لها فى اليمن من خلال دعم الحوثيين. محاربة داعش 4- يعد النفوذ الإيرانى فى العراق خارج أى صفقات محتملة أو مواءمات لتحسين صورة إيران دوليا وخروجها من العزلة العالمية التى فرضتها عليها الولاياتالمتحدةالأمريكية، عقب التوقيع على الاتفاق، نظرا للأهمية الإستراتيجية والأيديولوجية التى يمثلها العراقلإيران، فمن المستبعد أن يخضع الدور الإيرانى فى العراق لأى تقييم من قبل النظام، لاسيما فى ظل التوافق الغربى وبصفة خاصة الأمريكى على الجهود والنجاحات التى استطاعت طهران تحقيقها فى محاربة تنظيم الدولة الإسلامية «داعش» تلك الجهود التى انعكست فى توصيات التقرير السنوى الصادر فى مارس الماضى عن جيمس كلابر، مدير الاستخبارات الأمريكية، والذى أوصى برفع إيران من قوائم الإرهاب الأمريكية نظرا لدورها فى محاربة «داعش» فى العراق.