أصبح العنف كلمة سيئة السمعة.فقد تم توظيفها من قِبَل أطراف عديدة، وفى بعض الحالات من دول معينة, ومع ذلك فمازال العنف من أكثر القضايا الشائكة والحساسة التى تخلق شقاقًا بين الأفراد والجماعات والثقافات، وتنشر أجواء الكراهية والتمييز، مما يباعد بين البشر،ويدفع نحو مزيد من الصدام. وهنا علينا أن نعود إلى صوت العقل والالتجاء إلى التراث الدينى والثقافى الثرى بمواقف مهمة أكَّدت كرامة الإنسان واعتبرت الحياة عطية من الله لا يجوز لأحد النيل منها واقتناصها. العنف موقف إيديولوجى يقوم على توظيف أسانيد مختلفة يعاد إنتاجها طبقًا لمصالح أفراد وجماعات متشابكة المصالح،قد تكون متناقضة فى مواقفها الأيديولوجية لكنها متفقة فى سعيها لإجهاض الآخر والقضاء عليه. ولقد قدم السيد المسيح الموقف المسيحى من الآخر بوضوح شديد، ففى قصة السامرى الصالح (الإنجيل بحسب لوقا 10: 30-37) نجد نموذجًا رائعًا للإيمان الذى يتجاوز حدود العقيدة والإثنية. ومع أن المثل لم يكن جديدًا على آذان سامعيه فى ذلك الوقت إلا أن خاتمته كانت صادمة ومؤثرة بشكل كبير. كان الموقف بين اليهود والسامريين فى ذلك الوقت شديد العداء إذ كان السامريون أعداءً بالنسبة لليهود فى العقيدة والسياسة والثقافة والتقاليد، حتى إن بعض الدراسات التاريخية تشير إلى أن الأمم فى ذلك الوقت، وهم حسب بعض التقاليد اليهودية غرباء ومرفوضون، كانوا أكثر قبولاً لليهود من السامريين. فى هذا الموقف العدائى يأتى هذا المثل كصدمة كبيرة ولاسيما أن التوقعات اليهودية لهذا المثل كانت مختلفة فى النتائج النهائية. تقول القراءة السريعة للمثل إن هناك يهوديًا جريحًا مرَّ به كاهن يهودى ولم يقم له بعمل الرحمة، كذلك مر به لاوى (خادم يهودى فى الهيكل) وتركه فى هذا الوقت السيئ. وهنا يشير المثل بوضوح إلى فشل المؤسسة الدينية فى ذلك الوقت فى تقديم عمل الرحمة. فى هذا السياق فإن المستمع يتوقع أن الذى يقوم بعمل الرحمة هو علمانى يهودى بار، حيث فشل رجال الدين اليهود فى القيام به، لكن خاتمة المثل جاءت من السيد المسيح صادمةً جدًا للسامعين، فمن قدم عمل الرحمة هو العدو طبقًا للمفاهيم العقائدية والسياسية والاجتماعية والثقافية، إنه العدو الشامل. أمَّا القراءة المتأنية لهذا المثل تدعو المسيحيين اليوم إلى عدم رفض الآخر أو تحقير عقيدته أو الازدراء بإيمانه. فهذا المثل لو تكرر اليوم بين أعداء العقيدة والثقافة أو أعداء الجغرافيا والتاريخ فهل نقبله؟ إنه تحدٍ للمسيحى فيما يتعلق بالآخر. كذلك إن مواقف الرسول بولس المتعددة نحو الآخر هى مواقف أساسية فى المسيحية، ولاسيما نحو من يعتقد أنه يمتلك الحق المطلق بمفرده. أحد هذه المواقف المهمة هو الحكم على عقيدة الآخر، هذا الحكم يأتى مرات فى إطار الازدراء، ومرات أخرى فى إطار التهكُّم أو التقليل من عقيدة الآخر. فى هذا السياق يأتى الرسول بولس واضحًا فى موقفه من الأشخاص الذين ليس لهم ناموس أو شريعة أو دين. هذا الموقف يؤكد بوضوح أن »الذين ليس عندهم الناموس ... هم ناموس لأنفسهم« (رسالة الرسول بولس لأهل رومية 2: 14). وهنا يواجه الرسول بولس الموقف اليهودى الذى ادعى أنه يمتلك الحقيقة المطلقة بمفرده وأن غير اليهود لا مستقبل لهم أو بعبارة أخرى يأتى موقف الرسول بولس مواجهًا للموقف اليهودى الذى يسعى إلى تكفير الآخر. إن هذه الكلمات الخالدة التى نطق بها الرسول بولس فى العهد الجديد «الذين ليس عندهم الناموس ... هم ناموس لأنفسهم» تؤكد بوضوح أن الله وحده هو الذى يدين البشر وأن الله وحده هو الذى يحكم على فكر وعقائد البشر. هنا لدينا موقف مسيحى واضح يرفض الازدراء بالعقائد الأخرى أو التحقير منها. فى هذا السياق، يكون تدمير الآخر لأنه أخذ موقفا عدائيا يرفضه العقل والدين، ومن ثمَّ يكون العنف بهذا المعنى موقفا عدائيا نحو الآخر يتطور إلى القضاء عليه وتدميره تدميراً كاملاً. لقد شهدت اللحظات الأخيرة فى حياة السيد المسيح مواجهات عديدة بين التلاميذ واليهود الذين كانوا يريدون قتله، ومع ذلك شهد أحد المواقف عنفًا واضحًا حين قطع أحد تلاميذ السيد المسيح أذن أحد الجنود الذين كانوا يريدون القبض عليه ومحاكمته إلا أن موقف السيد المسيح من العنف كان واضحاً وهو الرفض، بل بمعجزة أعاد أذن ذلك الجندى لأنه كان رافضا لكل أشكال العنف (الإنجيل بحسب لوقا 22: 50). ومن هنا فإن السيد المسيح المؤسس العظيم للمسيحية لا يقبل العنف. وفى ذكرى قيامته نؤكد نحن أيضًا على رفض العنف، والقبول بطريق الألم الذى يُكلَّل بالقيامة ومن هنا نؤكد نحن أيضًا رفضنا لكل مظاهر وأشكال العنف، نصلى أن يمنح الله الجميع سلام الله الذى يفوق كل عقل. إننا فى هذه المناسبة نرفع صلواتنا إلى الرب كى يحفظ بلادنا من كل ما يحاك حولها من مؤامرات، وأن يرشد قادتنا للعمل من أجل الارتقاء بها وبأبنائها. رئيس الطائفة الإنجيلية فى مصر لمزيد من مقالات القس اندريا زكى