يتردد فى خطابنا السياسى اليوم وبصورة تكاد تكون غير مسبوقة عبارات تعبر عن حب مصر، حتى أنها أصبحت عنصرا مشتركا فى عناوين العديد من الأحزاب والتجمعات السياسية: «فى حب مصر»، و«من أجل مصر»، و«حراس مصر» إلى آخره. وليس من بأس فى ذلك؛ و لكن ثمة حقيقتين موضوعيتين لا بد من أن نضعهما فى الاعتبار: الحقيقة الأولي: أنه ليس ضروريا ولا ممكنا أن يشاركنا العالم فى حب من نحب والإعجاب به. من الطبيعى أن تتباين اتجاهات ومصالح الآخرين حيال وطننا الحبيب؛ ولا يعنى ذلك بحال أن كل من لا يشاركنا الحب والإعجاب بمصر عدو لنا. الحقيقة الثانية: أن من يحب ينبغى أن يسعى لإسعاد من يحبه؛ ولو ترجمنا تلك العبارة الرومانسية إلى تعبير علمى فإن الهدف ينبغى أن يكون كفالة أكبر قدر ممكن من تحسين نوعية الحياة للمصريين بما فى ذلك تحسين نوعية حياتهم النفسية. ويترتب على التسليم بهاتين الحقيقتين العلميتين التفرقة بوضوح بين القدرات الموضوعية للوطن فى المرحلة الراهنة والصورة التى نحلم بها لهذا الوطن فى المستقبل القريب والبعيد. ليس من شك فى أن الحب حاجة إنسانية ضرورية لاستمرار الحياة؛ وليس من شك فى حقيقة أننا ننحاز لما نحب ولمن نحب، ولا مجال للخجل بشأن هذا الانحياز بل والتعصب، ومحاولة إنكاره والتخفى بادعاء موضوعية متهافتة لا محل لها. إننا فى مجال العواطف لا نستطيع الزعم بأننا قضاة موضوعيون نمسك بيدنا ميزان العدالة مغمضين عيوننا، وحتى لو ادعينا أن عيوننا مغمضة فسوف تظل صور ما نحب ومن نحب تملأ جوانحنا، ولنا أن نحلق بحبنا إلى أعلى عليين دون خوف أو وجل، ولكن ذلك الحب ينبغى ألا يحجب عنا حقيقة أنه كما أن لمن نحب صفات تبرر تعلقنا به؛ فإن لديه ما ينقصه؛ وأننا نقبل به كما هو. ينبغى لعيوننا المحبة ألا تخفى عن عقولنا ما لدى ما نحب من مثالب وعورات؛ كما أنه لا ينبغى لعيوننا الكارهة أن تخفى عن عقولنا ما لدى الآخرين من نقاط قوة وتفوق. وأن نسعى بعقولنا وأيدينا وعواطفنا أيضا لتلافى مثالبنا لا تجاهلها، وأن نسعى فى نفس الوقت لدراسة نقاط قوة الآخرين دون التهوين منها. موضوعية التقييم العقلى لا تتعارض قط مع مشروعية الحب المنحاز. إن المرء يحب أطفاله وينحاز لهم و يفضلهم عن العالمين؛ ولكنه إذا أخضع عقله لعاطفته فاعتبرهم موضوعيا الأذكى والأقوى والأقدر من أقرانهم؛ فإنه يلحق بهم ضررا بالغا قد يدمرهم ويدمره معهم، إنه قد يدفع بهم إلى تنافس غير متكافئ مع من هم أقوى منهم موضوعيا؛ وحينها قد نمضى فى ذاتيتنا فنتصور أن تخلفنا فى تلك المنافسة مجرد مصادفة سيئة أو سوء حظ؛ فنندفع من جديد إلى ساحة المنافسة فيتكرر الإخفاق؛ وعندها قد يستولى علينا اعتقادا بأن الأمر إنما يرجع لخبث الآخرين وعدوانيتهم و تآمرهم و فساد أخلاقهم؛ وبالتالى يتملكنا الشعور بالاضطهاد الذى يستنزف ما بقى لدينا من طاقة؛ ولا يصبح أمامنا وقد أصبحنا خارج السباق وانكشف زيف أوهامنا إلا أن ننقلب على ذاتنا نجلدها بلا هوادة ونجردها من كل ميزة، فنندفع فى طريق هاوية بلا قرار. أما إذا أدركنا أن أبناءنا وأحبتنا ليسوا على ما يرام؛ وكان هدفنا هو السعى لإسعادهم وليس للتفاخر بهم، فسوف يكون لنا سبيل آخر: أن نلتمس لدى أبنائنا ما لديهم بالفعل من نقاط قوة ونحاول تقويتها وتوعيتهم بها، ثم نبحث عن مجال يستطيعون التفوق فيه ولو تفوقا محدودا؛ ولا ندفع بهم إلا إلى مجالات تنافس تناسبهم حيث قد يتفوقون فيها على غيرهم. إن ما ينطبق على الأسرة فى هذا الصدد ينطبق بشكل يكاد يكون حرفيا على المجتمعات والجماعات والدول. إن تحديد الجماعة لقدراتها الموضوعية الراهنة دون تهويل أو تهوين يضعها على أول طريق التقدم للمستقبل؛ فإذا ما استسلمت للتهويل والتضخيم من قدراتها دمرت نفسها؛ وإذا ما هونت مما لديها من قدرات استنزفها البكاء على الأطلال واستغرقت فى جلد الذات؛ وكلا الخيارين لا يعنى سوى التدهور والفناء. صحيح إن مصر التى نحبها ليست فى أحسن أحوالها الآن؛ فالإرهاب ينهشها؛ والتحديات الاقتصادية أمامها هائلة؛ وبعض مثقفينا تأخذهم الرغبة السوداوية لجلد الذات إلى حد اتهام أبناء مصر بالتكاسل بل ويطالبون بدفعهم للعمل بالسياط؛ متجاهلين سعى المصريين الدءوب بحثا عن فرصة عمل حتى لو أقدموا فى سبيل ذلك على مخاطر شديدة. خلاصة القول أن لدى مصر التى نحبها مخزونا من القدرات والقيم يمكنها من الوقوف والتصدى والصعود؛ وعلى رأس تلك القدرات المختزنة قدرتنا على التسامح والصبر والتحمل والتماسك والعمل. لمزيد من مقالات د. قدري حفني