تنظر المحاكم الإسبانية هذه الأيام قضية أثارت اهتماما كبيرا ومخاوف في دول عديدة وأسئلة بلا حصر لاتزال تبحث عن جواب: هل يمكن بعد مرور عشرات السنين علي حكم رئيس استبدادي قتل وعذب وسجن الكثير من أبناء شعبه أن يعاد بعد وفاته فتح ملفاته السوداء ويطالب أحفاد ضحاياه بالعدل وإعلان الحقيقة التي ظن البعض أن الزمن قد ألقي بها في زوايا النسيان؟ والحق لا يمكن أن يضيع ما دام وراءه مطالب ومهما طال الزمن. ورغم أن أحفاد هؤلاء الضحايا قد تجاوزت سن بعضهم80 عاما, وجاءوا اليوم ليفتحوا ملفات أجدادهم من ضحايا الديكتاتور فرانكو في إسبانيا الذي استمر حكمه من عام1931 وحتي عام1975, إلا أن الألم مازال يشقيهم والجرح لم يندمل. أمام إحدي المحاكم في مدريد كانت هناك نماذج للذين ذهبوا يطلبون العدل, منهم السيدة بيرلي أوديبل التي قدمت شكوي حول اختفاء والدتها في عام1936 دون أن يظهر لها أثر, وأن المعلومات التي وصلتها فيما بعد تقول أن الأمن قد أخذ والدتها من بيتها ولم ترها منذ ذلك اليوم مرة أخري, وتصف أوديبل كيف أن عمرها في ذلك الوقت كان ستة أعوام عندما اختفت والدتها أوجاستينا ضمن ثلاث نساء و27 رجلا, تبين فيما بعد أن الأمن أطلق الرصاص عليهم جميعا والقي جثثهم في مقبرة جماعية. وكانت بيرلي أوديبل هي أول من قدمت شكوي إلي المحكمة وفتحت هذا الملف من جديد. وأشارت تقارير بدأت تظهر حول هذه المذابح إلي أن500 ألف شخص قتلوا أثناء الحرب الأهلية الأسبانية في أواخر ثلاثينيات القرن الماضي, وأنه تم إعدام مليوني شخص. كان أيضا ضمن الذين تقدموا للمحكمة طالبين العدل السيدة جوزفينا موسولين والتي راحت تروي مأساة عائلتها للقضاة في المحكمة, وقالت أن جدتها انتزعت من بيتها أثناء الحرب الأهلية وكانت حاملا, وعلمت الأسرة أن الأمن أطلق الرصاص عليها في بطنها, وبعد وفاة فرانكو عام1975 قام بعض الأشخاص الذين كانوا مسجونين مع جدتها بإبلاغ أسرتها أن جوزفينا ظلت علي قيد الحياة حتي أنجبت طفلتها, وظلت الأسرة تبحث عن هذه الطفلة لمدة33 عاما لكن لم يعثروا لها علي أثر. وتحكي المرأة الثالثة أنطونيا أوليفر أن جدها كان واحدا من عشرات الألوف الذين قتلوا علي يد فرق الموت التابعة لفرانكو, وتم دفنهم في مقابر جماعية مجهولة, وأنها وافراد أسرتها مازالوا يبحثون عن المكان الذي دفنوا فيه, وتقول أن جدتها وهي زوجة القتيل تبلغ من العمر الآن87 عاما, وأن الأسرة كلها تريد أن تعرف مكان المقبرة وأن تداوي جراحها بتحقيق العدل ومعرفة الحقيقة. وقال أحد الذين تقدموا بشكواهم إلي المحكمة ويدعي بيدرو سلونا أن والده قد تم تعذيبه وقتله لمجرد أنه قام بتقديم طعام لعدد من رجال حرب العصابات المناهضين لفرانكو عام.1947 ويقول أحفاد الضحايا إن أجدادهم ليسوا علي قيد الحياة لكي يرفعوا صوتهم مطالبين بالعدالة ولكن أحفادهم يقومون بذلك اليوم بدلا عنهم. وبالرغم من أنه كان هناك اتفاق ضمني بعد وفاة فرانكو علي نسيان الماضي بين السلطات والأهالي, والتركيز علي بناء مستقبل جديد آمن الا أن هذا الإتفاق لم يعد من الممكن ان يصمد الآن, فالقصاص وبناء المستقبل كانا يجب ان يسيرا علي خطين متوازيين. وتقول صحيفة الأوبزيرفر البريطانية في تحقيق لها حول هذا الموضوع أن فرانكو وحكومته إرتكبوا عمليات إعتقال وتعذيب والاختفاء الغامض لآلاف من أفراد الشعب وخاصة السياسيين حتي بعد إنتهاء الحرب الأهلية. ومن ضمن أحفاد الضحايا أفراد من عائلة تدعي بيلر, كانوا قد هاجروا إلي بريطانيا, لكن أحدهم عاد إلي أسبانيا بعد أن بدأت تثار هذه القضية من جديد, لكي يدفن أجداده في مقبرة يعرف مكانها بدلا من إلقاء رفاتهم ضمن المقابر الجماعية. بل ان البعض طالب بإجراء تحليل الحامض النوويDNA لتحديد رفات ذويهم. وقد صدر مؤخرا كتاب في لندن للمؤرخ بول بريستون وهو مختص بالشئون الأسبانية كشف أن200 ألف شخص كانوا قد قتلوا في معارك الحرب الأهلية, لكن نظام فرانكو قام بعد انتهاء الحرب الأهلية بقتل20 ألف شخص آخرين في موجة عنف جماعي. كان فرانكو قد تولي الحكم في أبريل1931 بعد أن أستولي علي السلطة ونفي ملك إسبانيا إلي خارج البلاد وأعلن الجمهورية, وظلت أسبانيا خاضعة لحكم فرانكو حتي وفاته عام1975, لكن في الفترة الأخيرة من عهده عمل علي أعادة النظام الملكي من خلال برعاية حفيد الملك خوان كارلوس الذي مازال علي عرش اسبانيا حتي اليوم. ونظرا لأن فرانكو كان ديكتاتورا متحالفا مع هتلر ومؤيدا للأفكار النازية في ألمانيا فقد قام المناهضون لنظامه بأعمال مسلحة ضده مما أدي إلي إشتعال الحرب الأهلية عام1936 والتي استمرت حتي عام1943. إن القضية المعروضة أمام المحاكم الإسبانية الأن تظهر بكل وضوح أنه مهما جري من تزييف أو تعتيم أو تلاعب بالأدلة التي تدين أي حاكم مستبد,فالحقيقة لابد أن تظهر لأن الشعور بالظلم وإخفاء الحقيقة لا يمكن أن يستمر مهما مرت عليه الأعوام.