عندما وطئت قدماي لأول مرة العاصمة الفرنسية, وفي طريقي إلي المتحف العسكري هناك, رأيت كوبري شعرت وأنا أسير فوقه بأنني قد عدت إلي صميم القاهرة وأنا الذي في قلب باريس!! القاهرة الساحرة التي كانت في مخيلة رجل عظيم انتقصنا من شأنه أيما انتقاص علي مر الأجيال, وهو الذي لم يكن يوما مثلما وصفته كتب التاريخ, وما ألصقته به من نواقص جسام,ذلك الرجل الذي تدين له القاهرة الأنيقة المتحضرة بأسمي آيات العرفان لو أن كتب التاريخ في بلادنا عادلة وأقصد هنا الخديوي إسماعيل;ذلك الرجل الذي راوده الحلم في ذات يوم كي يقيم حاضرة لمصر تضاهي حاضرة فرنسا.. ففعل!! إذ أتي الرجل بالمهندس الذي خطط مدينة باريس وجعله يخطط مدينة من نسيج روحها علي أطلال برك ومستنقعات تحوم في أفلاكها أسراب من الناموس وموجات فتاكة من الملاريا!! الكوبري الذي كنت أسير فوقه حمل نفس التصميم الهندسي الذي يحمله كوبري قصر النيل, بل وتتصدر مدخله ومخرجه نفس السباع: أربعة سباع شامخة تسر الناظرين تكاد أفواهها تزأر من فرط حرفية النحات واهتمامه بأدق التفاصيل, سباع لا تعرف ما إن تراها إن كانت من برونز أم ذهب من فرط اللمعان وبهاء الإطلالة; سباع هيهات بينها وبين تلك السباع( البلدية) البائسة التي أصبحت تتصدر اليوم الكوبري المصري المؤدي إلي ميدان التحرير: غبراء اللون والملمح, طمست تفاصيل معالمها فرشاة طلاء غشيمة لم ترحم ولم تذر,يكسوها من التراب ما يكسوها, خارت قواها كمدا علي طرفي سورين امتدا علي جانبي جسم الكوبري البائس وقد تفسخت أوصالهما, ومال حالهما بنفس درجة ميل حال المارين بجوارهما,تنتصب منهما أعمدة إنارة محطمة وبقايا بيارق مستنفرة!! وقفت علي الكوبري الفرنسي أرقب الموقف عن كثب لعلني أجد بعضا من صبية فرنسيين يعتلون ظهر تماثيل السباع هناك فلم أجد!! أين شباب فرنسا يا ناس؟ أين تجمعاتهم حول السباع يلتقطون صورا تذكارية يرتدون مزركشات الألوان, تعلو وجوهم نظارات شمسية مضروبة ما أنزل بها الله من سلطان وضحكات بلهاء( علي الفاضي والمليان).. لم أجد!! وأترك السباع المصرية لحالها, وأطوف بك اليوم في كثير من شوارع القاهرة البائسة,وأطالع تماثيل كثيرة طالما شعرت بشدة معاناتها, تماثيل خرج معظمها من رحم حقبة أسرة محمد علي, راعي مثالوها الله فيما نحتت أياديهم, فخرجت تماثيلهم دليلا علي تحضر أهل هذا البلد وعلاقتهم الوثيقة بفنون النحت منذ فجر التاريخ, وتشهد علي ذلك تماثيلهم التي لا تضاهيها تماثيل في حضرة المعابد المصرية, وازدانت شوارعنا بتماثيل أخر لإناس كانوا علامات مضيئة علي درب نهضتها علي امتداد الزمن!! أطوف اليوم فأجد جرأة من نوع جديد, نوع ليس غريبا علينا فحسب,وإنما غريب علي الحضارة الإنسانية قاطبة; إذ لم يكتف الثائرون بتشويه الحوائط فحسب,وإنما راحوا يرصعون أجسام التماثيل بغرائب الملصقات; وكأنهم يستكثرون علي الأجيال المقبلة شعورها بالتاريخ.. تركوا الحوائط جميعها وفضلوا تشويه أجسام التماثيل, وأنا لا أحدثك هنا عن تشويه القواعد الحجرية أو حتي الرخامية التي تحمل التمثال فقط, وإنما أحدثك عن تشويه صدر التمثال نفسه بل ووجهه إذا شئت!! فكرة غريبة لم يسبقنا إليها أحد في العالمين!! ما هو سر سوء العلاقة الدائم بين المصريين( المعاصرين) والتماثيل عموما, ما بين تجاهل تام,أو إهمال مفرط, ثم تشويه متعمد غير مبال,ثم تحرش( دائم) ينطوي في مكنوناته بين الحين والحين علي ثمة رغبة دفينة في تحطيم التماثيل, أو علي أقل تقدير تغطيتها لحين البت في شأنها أو حسم أمرها بمعني التخلص منها نهائيا؟ هل تراها كراهية للتاريخ ؟ هل تراها كراهية للجمال في مقابل اعتياد القبح ؟ هل تراه خلطا جسيما مبنيا علي نظرة دينية في غير محلها؟ أما وإن كان كراهية للتاريخ, فلقد شوهنا تاريخنا فعلا في عيون الأجيال,وما الجيل الجديد سوي النتاج شديد الشراسة لمنظومة( التهجين التاريخي) المشوه الذي بدأناه دون وعي منذ خمسينيات القرن الماضي, منظومة سيست التاريخ ولم تتعامل معه بحياد, ولقد علمنا هذا النمط الممنهج, فبدلا من أن نتجاسر فنغيره, إذا بنا نستمرئه في الكتب, ونتخافت بيننا في البيوتات بحقيقته تاركين هذا الاعوجاج يستشري ويستأسد,إلي الحد الذي يجعلني أتحداك إن أنت سألت شابا في العشرينيات من عمره وما دونها عن اسم صاحب تمثال واحد في بر مصر فأجابك بدقة,هذا إن أجابك أصلا!! ثم أتحداك إن أنت ذكرت له الاسم دون أن يمطرك بمعلومات مشوهة عنه,وما المعلومات عن تمثال سوي عينة من معلومات كثيرة مشوهة عن تاريخ هذا البلد ملؤها الخيانة والمؤامرات وأقل ما فيها طبقية كريهة ممجوجة مبنية علي الاستغلال واستعمال النفوذ والقهر هذا هو ملخص التاريخ المصري في مخيلة أحفاده!! أما وإن كانت كراهية للجمال في مقابل اعتياد القبح,فلا تقنعني أرجوك بأن واقعا مشوها قبيحا في معظم مظاهرة من الممكن أن يقبل بين جنباته عنصر جمال واحد; ذلك لأنه كما أن الجمال محفز الي مزيد من الجمال, فإن القبح محفز الي مزيد من القبح; وأن للجمال والقبح طاقة سرعان ما تلتهم ما عداها إذا ما استشرت ونفذت وتمكنت, ولقد تمكن القبح من حاضرنا فما عاد هناك بد من أن تخور قوي الجمال وتستسلم لقوي القبح; ولقد بررنا القبح في مظاهر حياتنا فما عاد للجمال قيمة مضافة تذكر, وما تلك اليد التي تمتد اليوم لتلطخ تمثالا سوي تجسد لطاقة القبح المستشرية!! أما وإن كان الأمر ينطوي علي نظرة دينية في غير محلها, فليسمح لي قارئي الكريم( وفي حدود علمي المتواضع) أن ألفت انتباهه إلي أنه بتتبع ما تمثله الأصنام كبديل لعبادة الله من وزن نسبي في مضمون رسالة رب العالمين إلي نبيه( ص) في عصر نزول القرآن,فقد تتفق معي علي أن الأصنام لم تكن لتمثل ذات الثقل في الرسالة المحمدية كمثل الذي كانت تمثله الأصنام في الأزمنة السالفة علي ذلك الزمن; فليس هناك وجه للمقارنة بين الأهمية التي كانت تشكلها أصنام قريش في مجتمعها مثلا وبين الأهمية التي كانت تمثلها الأصنام في مجتمع قوم سيدنا إبراهيم عليه السلام;ذلك لأن رسالة نبينا( ص) تجاوزت هذا الإطار وإن تناولته بقدر إلي رحاب أطر أكثر أهمية; فالرسالة القرآنية انطوت علي تعديلات جوهرية في مسارات الديانات السماوية,ومثل فيها العلم قدرا لا يستهان به, كما انصب اهتمامها علي تنظيم الحياة الاجتماعية, والاقتصادية, والسياسية,بل واستفاضت الرسالة القرآنية في تأسيس فكرة وجود الله عز وجل ووحدانيته وتناولت تفاصيل غيبيات التاريخ وكذا غيبيات الحياة الأخري,إذن,نحن لسنا أمام رسالة استهدفت محاربة عبادة الأصنام كعمود فقري للديانة الإسلامية إلي الحد الذي يجعل من هذه القضية قضية القضايا, وإنما تناولتها كعنصر تفتت داخل الرسالة ما بين عادة بدائية استشرت في المجتمع الجاهلي تعود إلي جذور تاريخية شكل تناولها في الأقوام السالفة معظم الثقل في القرآن, ولم تكن هي القضية الأهم في مجتمع فجر الإسلام!! فلما نضيف نحن ما هو أهم بشأن ما تمثله هذه التماثيل في حياتنا المعاصرة, سنجد أن تماثيلنا تلك لم تكن في يوم من الأيام تمثل أصناما بالمفهوم العقائدي للكلمة, وإنما تميل إلي كونها فنا لم يخطر علي بال من يمارسه أو من يتأمله أن تتحول تلك التماثيل إلي طقس عقائدي بأي حال من الأحوال; إلي الدرجة التي تجعل اليوم من مستشفي الأمراض العقلية المكان الوحيد الذي يمكن أن يكون المثوي لأي شخص قد يقدم علي عبادتها;فتخيل لو أن الناس قد وجدوا شخصا يعبد تمثال طلعت حرب باشا مثلا, هل تظنهم يتبعونه أم تظنهم يعاونون رجالات مستشفي المجانين في الإمساك به وإلباسه القميص( إياه) ؟ أعتقد أن التصور الأخير هو الأقرب إلي الصواب!! أخي, أعتقد أننا في أشد الحاجة اليوم قبل غد إلي علاقات أكثر نضجا مع نتاج التجربة البشرية بشكل عام!! المزيد من أعمدة أشرف عبد المنعم