بالحضور الرفيع المستوى للملوك وأولياء العهود والمسؤولين الخليجيين فى مؤتمر مصر المستقبل بشرم الشيخ، وبإعلانهم استمرار دعمهم «اللامحدود» لمصر، يتأكد للمرة الألف أن دول الخليج (باستثناء قطر) تعتبر أن أمن مصر جزء من أمنها القومي، وأنها قد تبنت قرارا استراتيجيا باستمرار دعم مصر. وهو ما يدحض أى مجال للجدل الذى تفجر قبل شهرين بشأن احتمالات تحول السياسة الخارجية السعودية فى ظل الملك سلمان تجاه القاهرة، حيث تبقى النقطة الغائبة عن هذا الجدل أن هذه الدول فى هذه المرحلة الفارقة قررت ألا تتعامل مع مصر بمنظور حسابات الربح والمصلحة، ولكن قدرا من السيكولوجيا والقيم والأعراف العربية يدفعها لذلك، ولا يمكن إيجاد تفسير آخر لهذا الموقف الخليجي. تمثيل ضخم لقد أعلنت أربع من دول مجلس التعاون (السعودية والإماراتوالكويت وسلطنة عمان) عن تقديمها دعما واستثمارات بقيمة 12.5 مليار دولار. وكان المشاركون من دول الخليج متوحدين فى التعبير عن عمق مشاعرهم نحو مصر، واتسم خطابهم السياسى بقدر من العاطفة القومية التى فاقت أحيانا تعبير المصريين الوطنى عن مشاعرهم تجاه أرض الكنانة، وهى لغة افتقدها الخطاب العربى لسنين طويلة. ويكفى التقاط بعض مما ورد بكلمات ولى عهد السعودية الأمير مقرن بن عبدالعزيز أو نائب رئيس دولة الإمارات وحاكم دبى الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم أو أمير الكويت الشيخ صباح الأحمد الجابر، أو رئيس مجلس الدولة العمانى يحيى بن محفوظ المنذرى، أو وزير الدولة الإماراتى د.سلطان الجابر، أو رجل الأعمال الإماراتى محمد العبار. كما يكفى معرفة نوعية وحجم المشاريع الطموحة التى أعلن عنها الأشقاء التى يأتى على رأسها مشروع بناء عاصمة إدارية جديدة بتكلفة 45 مليار دولار. ولم يكن خافيا عن مواقف دول الخليج التنسيق الواضح فيما بينها، سواء فيما يتعلق بمبلغ الأربعة مليارات دولار من كل من السعودية والإماراتوالكويت، أو سواء فيما يتعلق بمضمون الكلمات، التى بدا منه توافقا مرتب له سلفا أو التطابق فى الرؤى، حيث حمل الموقف الخليجى رسالة دعم قوية وموقف أرادت دول الخليج أن تقره بالتشديد على أن مصر بيت العروبة وعامود الخيمة العربية, على نحو أكد وحدة القرار الاستراتيجى الخليجى خلف مصر. قاطرة الاستثمار كان التحرك الخليجى فى المؤتمر مثل القاطرة التى تشد خلفها الشركاء والمستثمرين العالميين نحو مصر. وكانت دول الخليج قد دخلت منذ عقود فى شراكات اقتصادية وتنموية كبرى، وانفتحت بقوة على العالم، وهو أمر تباطأت فيه مصر بسبب سياسات وتشريعات نفّرت الاستثمار الأجنبي، وأرست سياجا حول التأخر بدعاوى الحفاظ على الخصوصية والمنتج المحلي. ويعنى ذلك أن نخبة من أكبر رجال الأعمال والمسئولين من دول الخليج تتجه إلى الانخراط فى التفكير لمستقبل «الشقيقة الكبرى» على حد ما حرصوا جميعا على التأكيد عليه، وأنهم متفائلون بتحقيق نتائج وعوائد استثمارية، بل إن بعض رجال الأعمال الخليجيين أكد أن العائد الاقتصادى لا يشغله بقدر ما يشغله مستقبل مصر. ومن المرجح أن تتنوع الاستثمارات الخليجية فى مرحلة تالية، فإذا كانت هذه الحزمة من الاستثمارات سوف تتوجه بالأساس إلى مشروعات ملحة، وذات أولوية بالنسبة لمصر، فإن هناك آفاقا رحبة للاستثمارات الخليجية، تتمثل فى مجالات الزراعة والتعليم والصحة والطاقة والكهرباء والمياه وفى المشروعات الجديدة فى منطقة قناة السويس، والموانئ، والسياحة، وغيرها، كما أنه من المهم أن يتجه الاستثمار الخليجى فى إطلاق مشروعات خاصة بالمستقبل، وبإطلاق مشروع تنموى عربى جماعي، قائم على فلسفة للنهضة الصناعة والعلمية والتكنولوجية العربية، وهى المشاريع التى أفنت مكاتب الجامعة العربية عمرها فيها دون طائل. والهدف من كل ذلك هو البناء فى أكبر مشروع نهضة عربى تكنولوجى صناعى زراعى تنويرى ثقافي، يتبنى نهجا أشمل فيما يتعلق بمفهوم القوة العربية، ولا يحصره فى الجانب العسكرى التقليدي. مسارات مترابطة ويتمثل أهم تغيير فى الرؤية الخليجية الجديدة بشأن مصر فى ارتباط المسار الاقتصادى بالسياسي، والذى برز منذ 30 يونيو، فلم يعد الدعم الخليجى اقتصاديا فقط على غرار ما كان فى عهد مبارك، وإنما أصبح معبرا عن تساند استراتيجى وسياسى وشراكة مستقبل، حيث أظهر مستوى الحضور ومقدار الدعم أن مصر الدولة فى عمق اهتمامات دول الخليج، كما أظهر الدعم الخليجى مصر كدولة منفتحة على الاستثمار العالمي، وبدلا من سياساتها الداخلية البطيئة والبيروقراطية، فإنها يمكنها أن تستفيد من تجارب وشركاء بلدان الخليج الأوسع خبرة فى ذلك. ولقد أكد المؤتمر خطأ بعض وجهات النظر التى تنتشر بسذاجة فى الأوساط الشعبية وبعض النخبة القائلة بأن هناك مؤامرة على مصر، فذلك غير موجود لا من الخليج ولا من غير الخليج، وأن المقولة التى تروج دائما أنهم «لن يسمحوا لنا» بالتقدم أو بالوصول إلى مستوى معين هى مقولة غير صحيحة وهى من القناعات الخاطئة فى الثقافة الشعبية. فما أن يفكر بلد ما بصدق فى التقدم والارتقاء بمستوى الحياة لشعبه دون إيذاء غيره، وما أن يقنع الآخرين بالكد والعمل الجاد، فإنه يجد العالم إلى جانبه، أما إذا كانت هناك أخطاء فهى أخطاؤنا نحن. ولعلنا نذكر بعض الشائعات فى سنة حكم الإخوان التى أشارت إلى اعتراضات من جانب شركة موانئ دبى العالمية على مشروع قناة السويس بذريعة أنه سيكون منافسا لها، وهو موضوع أكد خطأه الحضور الراكز للشيخ محمد بن راشد الذى قال بعاطفة جياشة «إن مصر هى وطن ثانى لنا كما أن الإمارات وطن ثانى للمصريين»، وأن «وقوفنا مع مصر فى هذه الظروف ليس كرها فى أحد، ولكن حبا فى شعبها، وليس منة على أحد، بل واجبا فى حقها، وليس لعائد سريع نرجوه، بل هو استثمار فى مستقبل مستقر لأمتنا العربية». نافذة الفرصة وعلى مصر أن تنتهز هذه الفرصة التاريخية والاستثنائية للنهوض، وأن تدخل فى شراكة مربحة ومناظرة مع الخليج والعالم، وأن تسعى إلى ترقية وتشجيع الآخرين على مزيد من الاستثمارات، لأن قدرا من الوقوف المبدئى إلى جانب مصر اندفع بموقف دولى فى مواجهة الإرهاب ودعما لخطاب التجديد الدينى وإدراكا من العالم برغبة الدولة المصرية وشعبها فى الحياة، وهو ما كان دافعا لقطاعات كبيرة من الشركاء العالميين للمشاركة، ومن المرجح أن قراراتهم التالية بالاستثمار سوف تتوقف على عائداتهم المتوقعة من الاستثمار الأولي، ومن ثم يجب أن تفيد مصر الشركاء فى الأمد البعيد، مثلما تستفيد منهم الآن، فلن تكون الدولة المصرية استثناء من القاعدة التى تحكم حركة رأس المال والأعمال. ولعل أهم ما أكده المؤتمر هو أن مصر دولة راغبة فى الحياة، وليست مشغولة بصراعات الماضى أو بثقافة الموت التى تسعى لفرضها عليها جماعات ليس لها علاقة بأولويات ومنافسات الأمم فى القرن الحادى والعشرين. لقد شهدت مصر محطتين كبريين من الانفتاح على العالم من نمط التحرك الراهن، وإن ليس بمستواه، وهما محطة محمد على باشا وأبناؤه من بعده، وكان مشروعا عسكريا وامبراطوريا له امتدادات تعليمية وتحديثية، ثم الانفتاح الاقتصادى فى عهد الرئيس أنور السادات الذى كان مولودا مشوها، وأدى إلى نمو قوى طفيلية اعتاشت على السمسرة والعمولات واللاإنتاجية، ولا يزال الاقتصاد المصرى يعانى تشوهات هذه الحقبة حتى الآن. أما هذه المرة فيفد المستثمرون من الخليج ومن دول العالم بتفاؤل بمصر جديدة، لذلك يجب حمايتهم من قوى الجهل والخراب ومن سماسرة الداخل، فإذا كانت القوانين والتشريعات تغيرت فإن هناك نواقص ثقافة وتشوهات مجتمع وقوى فاسدة لم تتغير، بل شهدت تغيرا إلى الأسوأ فى السنين الأخيرة، ولابد من حماية المستثمر الأجنبى ضد هذه القوى التى تتربح على حساب الخسارة الوطنية، فلا يجب أن تغرق الاستثمارات العالمية وتضيع فى دروب ودهاليز المحلية الضيقة وأصحاب المصالح والأيديولوجيات الفاشلة والعقيمة. الخروج الكبير يمثل مؤتمر «مصر المستقبل» فرصة استراتيجية وتاريخية ل «الخروج الكبير» لمصر من الإغراق فى المحلية الضيقة إلى آفاق التواصل الرحبة الواثقة مع العالم، وهو ما يعد بتحول كبير فى أنماط تفكير وحياة المصريين. فلقد أمضت أجيال مصرية تحصر نفسها فى ضيق التفكير فى مسار ذاتى للنهوض، وتخشى الاحتكاك والتواصل العالمي، وهو ما برزت سوءاته وأخطاؤه كمسار استراتيجى نهضوى لمصر، وبرزت سوءاته على العقل ونمط التفكير المصرى الذى وقع ضحية العزلة عن العالم، حتى قامت ثورة 25 يناير فصدمت المصريين بحقيقة موقعهم المتواضع بين الأمم على نحو لا يليق بتاريخ ومكانة الدولة الأقدم فى التاريخ. وكثيرة هى الجدالات الفكرية التى شهدتها مصر فى سنوات قريبة حول صراع الأصالة والمعاصرة والتوفيق والتلفيق وفكر الأزمة وأزمة الفكر، فى ثنائيات وجدالات عقيمة حبست العقل المصرى فى قواقع مرضية بعيدة تماما عن مسار التفكير العالمى الصحى للمستقبل، ولم تكسب مصر منها مليما واحدا، ولم ترتق بوضع فقير أو عامل أو فلاح، وبدلا من أن نؤسس الشخصية المتفاعلة بثقة مع العالم انحصرنا وانحصرت بلادنا فى أسر أوضاع لا ترحم، ومافيات السمسرة التى وضعت نفسها فى منافذ عبور المصريين إلى العالم، مقابل رسوم عبور باهظة، خصمت من عمر الدولة والوطن. شراكة استراتيجية لقد شبه البعض ما قامت به دول الخليج بأنه «مشروع مارشال عربي»، وهذا التشبيه مبنى على قدر من الحقيقة، فقد عبرت مواقف الدول الخليجية عما يتجاوز المفهوم الاقتصادي، إلى شراكة استراتيجية مبنية على إدراك بمستقبل الأمة، وأهمية مصر للعالم العربى وأهمية العالم العربى لمصر. ويمكن لهذه الخطوات الأولى أن تؤسس لمشروع مشترك يعيد إحياء وتجديد المشروع العربى وقيام سوق خليجية مصرية مشتركة و«تجربة مصرية خليجية» تحقق الطموحات المجهضة للأمة العربية. وفى الحقيقة، فإن دول الخليج ومصر هى الوحيدة «المؤهلة» من بين كل دول العالم العربى لبناء شراكة ومشروع استراتيجى حقيقي، فعلى الرغم من وصف العلاقات العربية بأنها ذات طابع استراتيجي، فإنه لم ترتق أى علاقات بين دول عربية من الناحية الفعلية إلى المستوى الذى يمكن من توصيفها بذلك. وفى هذا السياق، ينبغى التفكير فى عمل منتدى أو ملتقى للتفكير الاستراتيجى بين مصر ودول الخليج، يقوم على إطلاق أفكار جديدة قائمة على الدراسة العميقة للمصالح والفرص والمخاطر والتهديدات، كما ينبغى مأسسة العلاقات بحيث يجرى تأمينها من تبعات التحولات السياسية الممكنة على الجانبين، بحيث يتم تجسير المسار، وحمايته من التقلبات الشخصية للأنظمة والحكام والإعلام.