علاقة غريبة تلك التى بين مصر ورجال أعمالها؛ علاقة شهدت كثيرا من الكبوات والزلات و الترنح بين يأس ورجاء، آمال وعثرات، قفزات جنونية ووعود براقة، أطماع وصفعات.. علاقة فى مجملها متعثرة للغاية وإن لم تبرح نتائجها فى معظم الأحيان فلك السلع الاستهلاكية غير المعمرة تحديدا و ليست السلع الاستثمارية؛ أو بتقسيم آخر سلع الاستهلاك الفردي(كالأطعمة والملابس و الأدوات المنزلية...) وليست سلع الاستهلاك الجماعى (كالطرق والسدود والمطارات ومحطات الكهرباء والمياه...) إلا فيما ندر! وليس يخفى على أحد ذلك الدور الرئيسى الذى تضطلع به البنوك ضمن منظومة الاقتصاد الحر من أجل دفع المشروعات الكبيرة؛ إذ تعتبر البنوك عنصرا إئتمانيا لا غنى عنه فى العالم بأسره فى هذا المضمار. غير أن طبيعة العلاقة البنكية بمعظم (وليس كل) رجال الأعمال المصريين فاقت حدود الدور السوقى الطبيعى للبنوك فى كثير من الأحيان؛ الأمر الذى أفسح المجال لظهور شخصيات لم نجد بدا من تصنيفهم رجال أعمال، وهم فى حقيقتهم مجرد محترفى لعبة الحصول على التسهيلات الإئتمانية ليس إلا، مانجم عنه ثراء فاحش زائف لحفنة قليلة من بشر فى مقابل الملايين من فقراء يدورون فى أفلاكهم، ينادونهم ..ولا حياة لمن تنادي! كما أنه ليس يخفى على أحد أيضا أن كثيرا من رجال الأعمال (وليس جميعهم) قد تاقت أنفسهم نحو الجنوح إلى الجمع بين الحسنيين: المال والسلطة معا؛ ما جعل العديد منهم ينحى تجاه لعب دور سياسى سواء كان ذلك بشكل مباشر عن طريق السعى نحو تبوؤ مناصب قيادية؛ أو بشكل غير مباشر عن طريق محاولة التأثير فى المشهد السياسى باستخدام الأدوات الاقتصادية كوسائل للضغط أو التلميح بذلك؛ وليس أدل على ذلك من عموم منظومة الإعلام الخاص. استفاد هؤلاء قدر ما استفادوا، وحققوا ماحققوه من مآرب بشكل أو بآخر؛ يتصيدون فى الماء العكر حين البأس، ويهللون ويسايرون الركب حين الرغد! ولقد كان من غرائب هؤلاء انكماشهم الشديد وقت عجت البلاد بخراب مستعجل (كان متوقعا) بعد اندلاع ثورة 25 يناير وما تلاها من تداعيات؛ ثم كان مزيد من الانكماش بعد وصول الإخوان إلى سدة الحكم؛ فمنهم من لاذ بالفرار إلى حين ميسرة؛ ومنهم من لاذ بالفرار إلى غير رجعة، أو هكذا انتوى! فلما هبت نسائم ثورة 30 يونيو، مالبث هؤلاء أن عادوا يشاركون الوطن فرحته التى صنعها البسطاء من الناس فى غيبة من هؤلاء أساسا؛ يلوحون للناس بعلامة النصر ويمنونهم بانتعاش إقتصادى مبين غير مسبوق (من بعد أن عادت مصر إلى المصريين... وما إلى ذلك من عبارات). وقف الرجل الذى وضع روحه على كفه فداء لهذا الوطن وأعنى هنا الرئيس عبد الفتاح السيسى ولا أحد غيره يناشد هؤلاء (ضمنيا) برد الجميل إلى هذا الوطن؛ وذلك من خلال المشاركة فى مشروع تبناه منذ بداية حكمه أطلق عليه (صندوق تحيا مصر)، فتخاذل (معظم) هؤلاء وتملصوا وأشاحوا بوجوههم وكأن الحديث ليس موجها إليهم و إنما يتعداهم إلى البسطاء من الناس! فلما فتح السيسى طاقة أمل أخرى صممها خصيصا لتناسب ظروف البسطاء، وليس ظروف الأثرياء، وأعنى هنا مشروع شق قناة السويس الجديدة، إذا بالبسطاء يلبون النداء ويتهافتون على إيداع مدخراتهم، ثم إذا بكثير من أصحابنا يكتفون بمشاركة البسطاء فرحتهم بابتسامة عريضة يعظمون دور الفقراء فى البذل والعطاء؛ يلوحون لهم بعلامات النصر ويمنونهم مرة أخرى بانتعاش اقتصادى مبين غير مسبوق! غير أن متغيرا أكثر خطورة لم يخطر ببالهم رجال الأعمال مالبث أن هبط به السيسى بسلام فوق ممر الاقتصاد المصري، وأقصد هنا المؤتمر الاقتصادى بشرم الشيخ، ذلك المؤتمر الذى أشاع الأمل فى النفوس، فما كان من هؤلاء إلا أن ذهبوا مشاركين معتقدين فى قرار أنفسهم أنهم (أصحاب الفرح) متأبطين أوراقهم البالية، تحفهم جوقة المنتفعين منهم وحملة المباخر، يمشون فى مناكب المؤتمر مرحا! ولكن الأمر جاء مختلفا : فلقد اكتشف هؤلاء أنهم ليسوا أصحاب الفرح كما ظنوا؛ وأن حجمهم الذى ذهبوا به إلى المؤتمر لايتساوى بالمرة مع حجمهم الذى عادوا به؛ فحجم الأعمال التى تم طرحها على منصة المؤتمر والملاءات المالية التى تبدت فى المقابل تفوق أحجام هؤلاء بزمان، وكذا طبيعة المشروعات التى تم طرحها؛ فنحن نتكلم عن سلع استثمارية ضخمة، وليست استهلاكية كالتى اعتادوا عليها (يتأسدون بها)على المحرومين والمعوزين وخيالات المعدمين، فلما أزفت الآزفة، لم يجد هؤلاء لأنفسهم مكانا يذكر وسط العمالقة الحقيقيين. وأخيرا، أتصور أن المؤتمر الاقتصادى قد وضع حدا فاصلا بين مصرين: مصر مجتمع رجال الأعمال الزائفين، ومصر مجتمع رجال الأعمال الحقيقيين، وأعتقد أن كثيرا من (أصحابنا) سيسعون خلال المرحلة المقبلة إلى (بث السموم)، من بعد أن استشعروا خروجهم المؤكد من الماراثون الاستثمارى الحقيقى يوم ابيضت وجوه واسودت وجوه؛ ذلك لأنهم لن يرتضوا ابدا التنازل عن مكانتهم الفوقية التى حفروها منذ عصر الانفتاح الاقتصادى حتى عصر المؤتمر الاقتصادي! سيادة الرئيس.. إحذر هؤلاء. لمزيد من مقالات أشرف عبد المنعم