لم يغفل الإسلام قيمةَ الأم، ولم يقتصر في تكريمها على أن يجعل لها يومًا فقط في العام يُحتفل به، بل جعل عيدها في كلِّ الأيام، حيث قال النبي الكريم لأحد أصحابه: "الزم قدميها، فثمَّ الجنة". وعندما سأله أحد أصحابه قائلاً: "من أحقُّ الناس بحسن صحابتي؟ قال: أمك، قال: ثم مَن؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أبوك"، فهل هناك إكرام أعرق وأشرف من هذا الإكرام؟! كلاَّ إنه الإسلام الذي احترم الإنسان صغيرًا وكبيرًا، وصانه وعرف حقوقه، فالأمومة هي العلة الموجبة لذلك الاحترام الذي أمر به الإسلام حينما نعلم أن رسول الله صلى الله عليثه وسلم أمر أسماءَ بنتَ أبي بكر رضي الله عنهما بالتمسك بذلك المنهج السلوكي مع أمها رغم أنها كانت مشركة، فعن أسماءَ بنتِ أبي بكر رضي الله عنهما قالت: « قَدِمَتْ عَلَىَّ أُمِّى وَهِىَ مُشْرِكَةٌ، فِى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ أُمِّى قَدِمَتْ وَهِىَ رَاغِبَةٌ، فسألته: أَفَأَصِلُ أُمِّى؟، فقَالَ صلى الله عليه وسلم لها: «نَعَمْ صِلِي أُمَّكِ».
ولعلنا مهما بحثنا عند غير أهل الإسلام فلن نجد لديهم من ينظر إلى الأم من تلك الزاوية زاوية الأمومة فيعتبرها مناطاً لوجوب برها، مهما كان معتقدها ودينها، هذا يدفعنا إلى أن نقول بملْء أفواهنا: هنيئاً لك أيتها الأم ما منحك الإسلامُ من مكانةٍ لن تعثري عليها عند أحد غيره حتى عند أولئك الذين يزعمون أنهم أرباب الحضارة والتقدم.
لا شك أن الإسلام قد بوَّأ الأم عرشَ المجد والعِزِّ حيث وهبها من الكرامة ما لم تنله إلا في رحابه فجعل حبَّها ديناً، ووصلَها عبادة، والذل لها رحمة، والتواضعَ لها رفعة، ولزومَ رجليها طريقاً يوصل إلى الجنة وخدمَتَها طاعةً تنال في سُلَّمِ الأولويات السبقَ على الجهادِ في سبيل الله، فعَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ جَاهِمَةَ السُّلَمِىِّ أَنَّ جَاهِمَةَ جَاءَ إِلَى النَّبِىِّ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَدْتُ أَنْ أَغْزُوَ وَقَدْ جِئْتُ أَسْتَشِيرُكَ. فَقَالَ: "هَلْ لَكَ مِنْ أُمٍّ"؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: "فَالْزَمْهَا فَإِنَّ الْجَنَّةَ تَحْتَ رِجْلَيْهَا".
يكفي الأم شرفًا أن من كان بارا بها تُستجاب دعوته؛ فقد كان عمر بن الخطاب إذا أتى عليه أمداد أهل اليمن سألهم: "أفيكم أويس بن عامر؟" حتى أتى على أويس فقال: "أنت أويس بن عامر؟" قال: "نعم" قال: "من مرادٍ ثم من قرنٍ؟" قال: "نعم" قال: "فكان بك برص فبرأت منه إلا موضع درهم؟" قال: "نعم" قال: "لك والدة؟" قال: "نعم" قال: "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول يقول: يأتي عليكم أويس بن عامر مع أمداد أهل اليمن من مراد ثم من قرن كان به برص فبرأ منه إلا موضع درهم، له والدة هو بها بر لو أقسم على الله لأبره؛ فإن استطعت أن يستغفر لك فافعل؛ فاستغفر لي" فاستغفر له، فقال له عمر: "أين تريد؟" قال: "الكوفة" قال: "ألا أكتب لك إلى عاملها؟" قال: "أكون في غبراء الناس أحب إلي" قال: فلما كان من العام المقبل حج رجل من أشرافهم فوافق عمر فسأله عن أويس قال: "تركته رث البيت قليل المتاع". لمزيد من مقالات د . جمال عبد الناصر