استبشرت خيرا حين قرأت في اهرام الجمعة الماضي أن صاحب الفضيلة الدكتور أحمد الطيب شيخ الجامع الأزهر قرر أن يضع استقالته من المكتب السياسي للحزب الوطني تحت تصرف الرئيس حسني مبارك. فقد وجدت في هذا القرار الحكيم ما يدل علي أن الفصل بين الدين والدولة قضية حاضرة ومبدأ مفهوم يستطيع رجال الفكر, ورجال الدين, ورجال السياسة أن يتفقوا حوله ويستجيبوا له. والدكتور أحمد الطيب الذي احتاج لأن أعرفه أكثر مما أعرفه الآن, مؤهل لاحترام هذا المبدأ والعمل بمقتضاه. لأن الدكتور الطيب الذي جمع بين علوم القرآن والحديث والفقه كما يفهمها أهل السنة, والفكر الصوفي كما يعبر عنه ويمثله محيي الدين بن عربي, والثقافة الحديثة التي تشربها وتمكن من مناهجها العقلية خلال دراسته في جامعة السوربون- الدكتور الطيب بهذا التأسيس الجامع والتربية المتكاملة قادر علي أن يفهم معني الفصل بين الدين والدولة, وأن يدرك الحكمة المتحققة في هذا المبدأ, ويبين للمصريين وغير المصريين أنه يتفق كل الاتفاق مع روح الاسلام الذي لايمكن أن يتناقض- اذا فهم علي حقيقته- مع روح العصر ومع مباديء الديمقراطية, وحقوق الانسان كما حددتها الوثائق والشرائع والمنظمات الدولية. الاسلام ليس فيه سلطة دينية, ولا وساطة فيه بين الانسان وربه. والعقل هو المرجع الأول في الاسلام. لأن العقل هو وسيلتنا للنظر في الكون وفي النفس وفي المجتمع, ولفهم النصوص الدينية, وفي التوفيق بين ما نلتزم به وما نحتاج اليه. والاسلام ليس مجرد تعليمات صارمة, وليس مجرد أوامر ونواه, وليس مجرد مظاهر وأشكال, وإنما هو قبل كل شيء سعي حثيث واجتهاد متصل في معرفة الجوهر, وانفتاح علي الوجود كله, واستعداد كامل للصفح والغفران. وهذا هو التصوف الذي يحمي من التعصب والتطرف والانغلاق, لأنه يري الكمال في التعدد, والغني في التنوع, والرحمة في الاختلاف. وبهذا يكون كل شيء في الحياة الانسانية قابلا للأخذ والرد, والقبول والرفض. وتكون الحقيقة كما أراها أنا, او كما تراها أنت, او كما يراها أي بشر نسبية, لأننا لانري إلا ما هو جزئي محدود متغير. لكن تسليمنا بأن ما نراه محدود معرض للنقد والتجاوز, وبأننا عاجزون عن ادراك الحقيقة المطلقة يحررنا من الطغيان ويحمينا من الخضوع لمن يزعمون لأنفسهم القدرة علي معرفة الصواب الكامل وادراك ما لايدركه الآخرون, ويفرض علينا بالتالي أن نرجع لعقولنا, ونحكمها فيما شجر بيننا, فمادامت الحقيقة نسبية, ومادام كل شيء يتحول ويتطور ويتغير فلابد أن نراجع أنفسنا ونراجع غيرنا, وأن نجدد معارفنا في ضوء ما تكشف عنه خبراتنا المتجددة من معلومات وحقائق. وهذا هو الدرس الذي لابد أن يكون الدكتور أحمد الطيب قد تعلمه في جامعة السوربون. أن الحياة الدنيوية لاتستقر علي حال واحد, ولا تنحبس داخل اطار مغلق, وإنما هي تيار متدفق يتحول ويتغير علي الدوام, فلا يمكن اخضاعها للمطلقات التي لابد منها في الحياة الدينية. واذا كان الوحي هو طريقنا لمعرفة الدين, فالعقل هو طريقنا لمعرفة الدنيا. والفصل إذن بين الدين والدولة مبدأ من المبادئ التي عرفها الدكتور أحمد الطيب في فرنسا عن قرب, ولمس دورها الفعال في توطيد أركان الحياة الديمقراطية, وتحرير العقل, وبناء مستقبل أفضل. ومن هنا رأي ألا يجمع بين مشيخة الأزهر وعضوية المكتب السياسي للحزب الوطني. لأن النشاط الديني يجب أن يبرأ من أي تفسير سياسي او حزبي. ولأن النشاط السياسي او الحزبي يجب أن يكون اجتهادا ديمقراطيا مفتوحا للجميع, وليس املاء من سلطة او جهة تزعم أنها تتحدث باسم الله! هذا الموقف يذكرني بقصة القديس توماس بيكيت التي لا أستبعد أن يكون الدكتور أحمد الطيب قد قرأها او شاهدها تمثل علي خشبة المسرح خلال وجوده في باريس يطلب العلم في جامعة السوربون. والمسرحية التي كتبها جان أنوي تدور أحداثها في القرن الثاني عشر الميلادي, في الوقت الذي كان فيه النورمانديون يحكمون انجلترا ويجلسون علي عرشها ويسومون أهلها السكسون سوء العذاب, وبالتحديد في زمن الملك هنري الثاني الذي نشأت بينه وبين أحد رعاياه توماس بيكيت, وهو شاب سكسوني ثري مثقف صداقة حميمة جعلته أقرب الناس اليه, فهو يلازمه في حله وترحاله, وفي جده وعبثه, وهو يخلص له الولاء ويقف الي جانبه ويدافع عنه سواء في وجه النبلاء النورمانديين, او الفلاحين السكسون, او أساقفة الكنيسة الذين يريدون أن يشاركوه في السلطة, ويتهربون من أداء ما عليهم من التزامات للدولة. وهكذا يعينه الملك وزيرا للخزانة حتي يستخلص للدولة حقوقها. ثم يجعله كبيرا للأساقفة حتي يضمن ولاء الكنيسة له, وعندئذ يتغير الوضع وتنشأ بين الرجلين علاقة جديدة تقوم علي الفصل بين ما يجب للدولة وما يجب للدين. الملك يحب بيكيت ويري أنه سيبادله الحب مهما تكن وظيفته, وبيكيت لاينظر إلا لما يفرضه عليه الواجب. اذا كان صديقا للملك فولاؤه للملك. واذا كان وزيرا لخزانة المملكة فولاؤه لخزانة المملكة. واذا كان رئيسا للكنيسة فولاؤه للكنيسة, ومن هنا ينشأ الصراع وتقوم الحرب بين الرجلين. الملك يدافع عن شرف المملكة, وبيكيت يدافع عن شرف الله ولايستسلم حتي يسقط صريعا. لكن الحرب ظلت مشتعلة بين الدولة وبين الكنيسة في انجلترا وفي أوروبا كلها حتي بدايات العصور الحديثة حين ثارت الشعوب, وأسقطت حكم النبلاء ورجال الكنيسة, وفصلت بين الدين والدولة, وأصبحت تحكم نفسها بنفسها, فالأمة هي مصدر السلطات.