سُمعة وزيرَ الداخلية الجديد، اللواء مجدى عبد الغفار، سبقته كخبير فى جمع المعلومات واستخلاص النتائج، وبشَّر بعضُ معارفه بأن إدارته سوف تختلف كثيراً عما سبقه، وتوقعوا أن تشهد المرحلة المقبلة تطوراً ملموساً فى الأداء، وقالوا إنه صاحب رؤية ومنهج علمى، وإنه لا يتقدم خطوة واحدة إلا بعد الدراسة والتأنى. ميزة المعلومات، عندما تُتاح لرجل الأمن الذى يجيد قراءتها وتوظيفها بهدف تحقيق أقصى فائدة، أنها تُمكِّنه من أن يوئد الجريمة فى مهدها، وأن يمسك بالمجرمين فى طور ما قبل تنفيذ الجريمة فعلياً، ولكن بعد أن تتوفر الأدلة الكافية لإدانتهم بالتخطيط والتآمر. وإذا وقعت الجريمة، يستطيع أن يصل إلى الجناة فى أسرع وقت دون أن يوسِّع من دائرة الشبهات، ودون أن يُصيب أبرياء لا يد لهم. وأمّا التأنى، فيفيد فى جعل الضربات الأمنية، مقصورة على الضرورة، وأن تكون أكثر فنية بحيث يقلّ فيها استخدام القوة إلى الحد الأدنى، وتتعاظم الإصابة المستهدفة، وتُجنب تماماً خسائر الأبرياء من عابرى السبيل أو أن تكون فى أقل ما يمكن. وكان من أكبر الانتقادات التى طالت الوزير السابق اللواء محمد ابراهيم، الاختلال فى استخدام القوة إزاء الأحداث المختلفة، حيث تجرى مواجهة المظاهرات السلمية بالقوة المبالغ فيها، فى حين تتردد الشرطة فى تعاملها مع مظاهرات الإخوان التخريبية! وأما الرؤية العلمية لرجل الأمن فتعنى أن صاحبها اجتهد فى التحصيل، وأنه يعرف أين تكمن بؤر ومفارخ الجريمة، والظروف والملابسات البيئية والاجتماعية، والتكوين النفسى للمجرمين، أو التكوينات النفسية، وأسباب ممارسة العنف..إلخ، ثم يعرف كيفية التعامل الأمثل مع كل هذا، وأن يحرص على أن تتوفر أحدث المعدات التكنولوجية، من كاميرات وغيرها، كسلاح لا يقل أهمية عن السلاح المادى. كما لا يغيب عن صاحب هذه الرؤية أن الانطلاقة الاولى فى ثورة 25 يناير، قبل 4 أعوام، قامت فى الأصل كانتفاضة غضب ضد تجاوزات من بعض رجال الشرطة، الذين انتهكوا خطوطاً حمراء ما كان لهم أن يتخطوها، تحت حماية قيادة ذات عقلية محدودة كانت تناصر الشرطى ضد المواطنين حتى بالباطل، ولم تكن تكترث بامتهان حقوق وكرامة المواطن الذى يوقعه حظه العاثر بين إيديهم، مع نكران تام لأن يكون هناك ثمة خطأ واحد مرة واحدة لرجل شرطة واحد! وكأن الاعتراف بخطأ أحد العاملين، مهما تعاظمت مسئوليته ورتبته، يمكن أن يؤثر فى وضعية جهاز سيادى! وهو ما أثبت أن هذه العقلية هى أعجز من أن تدرك أن الاعتراف بالخطا يقويها، وأن تسليم من أخطأ للعدالة يُسبغ الثقة على الجهاز كله وينال احترام وتقدير الرأى العام. وكان أخطر ما يغيب عنها أنها لم تفقه أن الأصل فى نشأة الشرطة هو حماية الناس. ولم تضع هذه العقلية النتائج التى سوف تترتب على حُكم القضاء عندما يؤكد الخطأ ويُدين المخطئين، وهو ما حدث فى واقعة استشهاد خالد سعيد، الذى كان الشرارة التى أشعلت الثورة، الذى أُدِيِن قتلَتُه قبل أيام قليلة، بعد أكثر من 4 أعوام من إنكار وزارة الداخلية، بل بعد محاولات من السعى لطمس الحقيقة وبذل الجهد لاستخراج استدلالات مزورة ضد الواقع! برغم كل شىء، فمن المفيد الإقرار بأن الداخلية تقدم الشهداء يومياً دفاعاً عن اختيار الشعب، كما أنها تتحمل أعباء هائلة من خارج مسئولياتها، وامتد الحال لسنوات طويلة، وقد آن الأوان لعلاج هذا الخطأ بأن تتوزع المسئوليات وفق القواعد الدستورية والقانونية. وقد طلب الرئيس السيسى من الوزراء الجدد، وقبلهم من المحافظين، أن يُطوِّروا أجهزتهم وإداراتهم وأن يسهروا على تحقيق احتياجات المواطنين، وهو ما يُفهَم منه ألا يقتصر الأمر على توفير الطعام والشراب وتسهيل المرور..إلخ، على أهمية كل هذا، ولكن الشعب ثار فى يناير ضد مبارك وخرج لتصحيح انحراف الإخوان بالثورة فى 30 يونيو، لأهداف إضافية أكثر سمواً وإنسانية لا يليق أن يَضنّ البعضُ بها على الشعب المصرى فى وقت تتمتع بها شعوب أخرى. ومنها حق الرأى العام فى معرفة أخبار بلاده من مصادرها الرسمية، ويدخل فى صلب هذا الحق وجوب أن تلتزم أجهزة الدولة بالرد الشافى على الأخبار والشائعات، خاصة منها ما يروج ويمسّ اهتمام الرأى العام. ومن ذلك كل ما يُنشر ويذاع، فى الداخل والخارج، عن التعذيب فى أقسام الشرطة والسجون! لأن مضار الصمت أسوأ كثيراً حتى من الاعتراف بوقوع الخطأ إذا كان وقع. لأن هذا الاعتراف يضع الخطأ وصاحبه فى إطار خارج عن السياق العام، وإلا لاقتنع الجمهور بصحة ما يتردد، ولكان الاتهام عاماً يصم الجميع! وهنالك مسألة تبدو من التفاصيل الشكلية، ولكن التمعن فيها يؤكد جديتها، وهى تغيير شعار الداخلية «الشرطة فى خدمة الشعب» عدة مرات حتى عاد إلى صيغته الأولى، فقد حدث فى آخر سنوات مبارك، أن تحول إلى «الشرطة فى خدمة سيادة القانون»! فما هو السبب وراء التغيير، إلا أن يكون الفهم المقصور الذى يتعالى على الشعب ويرفض خدمته أو يأبى أن يُدمَغ بأنه خادم للشعب؟ وواضح أن الفكرة لم تكن لتُنفَّذ إلا بعد أن حظيت بموافقة كبار المسئولين آنذاك، إنْ لم تكن فى أصلها من ابتكارات واحد منهم! ثم يبدو أنه حتى هذا الشعار المبتكر رأى البعض فيه ما يوجب تغييره أيضاً فصار» الشرطة والشعب فى خدمة سيادة القانون»! وكأن هنالك من كان يخشى أن يظن الشعب أنه أعلى من الشرطة التى تخدم سيادة القانون وحدها!! دراسة هذه التفاصيل مفيدة للشرطة قبل غيرها، لتعرف جذور الانحراف عن مهمتها التى نصّ عليها الدستور «...فى خدمة الشعب، وولاؤها له...»، المادة 206، لأنه لا يمكن أن يُرجَى إصلاحٌ بدون معرفة المزالق التى هوت فيها ممارسات بعض قيادات ورجال الشرطة فى التجارب التى ثار عليها الشعب فى 25 يناير وما بعدها. ليت روح 30 يونيو تعود، عندما خرج رجال الشرطة فى الحر القائظ يوزعون زجاجات المياه والمرطبات على المتظاهرين ويحمونهم من ميليشيات الإخوان، وبدا يومها أن المتظاهرين عفوا عما سلف وهم يحملون الشرطة فوق الأعناق. لمزيد من مقالات احمد عبدالتواب