النص يفهم بالعقل ولكن العقول تتفاوت فى مداركها وتجاربها، وهى فى تجاوبها مع لغة النص تتأثر بتباين دلالات جزئياته وبسياقه الداخلى والخارجى والملابسات التى أحاطت بالنص، حين صدر أو وجد لأول مرة، وبكيفية تطبيق هذا النص نفسه على وقائع وملابسات تحدث فى أمكنة وأزمنة أخري.ثم تأتى مشكلة اختلاف النصوص، وتعارضها فى الموضوع الواحد، ومحاولة التوفيق بينها، واختلاف المجتهدين فى هذا التوفيق تبعا لاختلاف مناحى تفكيرهم والتفاوت فى رهافة الحس والخبرة ودرجة تذوق النص عند كل منهم، وإدراك طبيعة الوقائع التى قيلت من أجلها النصوص فتتعدد الأوجه والاعتبارات وتتباين المذاهب والآراء.وتجديد الخطاب الدينى دعوة ضرورية مشكورة خاصة فى ظروفنا الراهنة، ولكنها لن تنجح فى أداء مهمتها إلا إذا وضع المنادون بها فى اعتبارهم أن تكون دعوة قائمة على التحليل الدقيق للنصوص، وألا يفهم منها بعض المتعجلين أنها دعوة إلى ما يشبه «التغليف» أو تحسين صورة الإسلام فى أعين شعوب العالم الحديث وتجاهل أخطاء الفهم والتطبيق فى الماضى والحاضر، وكأن الدين بضاعة «تُعلَّب» فى وعاء ظاهر الجمال حتى تجذب المشترين، أو كأننا نشبه بائع الفواكه الذى يضع حبات الفاكهة الناضرة متراصة حتى تستميل عيون الذين يمرون على متجره ويخفى الحبات المعطوبة مكومة وراءها، وهى التى يعبئ منها للمشترين. ليس الإسلام كهذه البضاعة ذات الظاهر البراق والمخفى المعيب، وإنما الإسلام بناء متكامل يشد بعضه بعضا، وتؤدى أبوابه وممراته وردهاته وطبقاته فى نهاية الأمر إلى وحدة محورية متماسكة. وقبل أن ندعو إلى تجديد الخطاب الدينى يجب أن ندعو أنفسنا وندعو الدعاة أنفسهم إلى تجديد الفهم، وأن تتجه أنظارنا إلى النصوص مجتمعة لا متفرقة حتى نستطيع النفاذ إلى روحها، وأن ننظر إلى القواعد الأساسية والمقاصد العليا على أنها بنية حية وعندئذ فلا حاجة بنا إلى الخوض مع الخائضين فى إنكار «السنة» أو توجيه الاتهامات الجزافية إلى الأئمة القدماء من الفقهاء أو المفسرين أو جامعى الحديث الشريف، لأننا بالنظر إلى اتجاه النصوص مجتمعة لا متفرقة سوف ينكشف لنا النص الشاذ تلقائياويفصح عن كذبه. وسوف يتبين لنا أن كثيرا مما نظنه من أصول الإسلام هو من نتائج اجتهادات فقهاء، وتطبيقات للنصوص فى عصر غير عصرنا لدواع خاصة قد تغيرت، فلا بد من تغير التطبيق واللجوء إلى القواعد الأساسية ذاتها، لا بل إلى روحها ومقصدها الإنسانى العام. يجب ألا نترك ناشئة الشباب نهبًا لأولئك الذين لم يحصلوا إلا أطرافاً ضئيلة من العلم، أولئك الذين يرددون النصوص، وليس عندهم أدنى ذوق يعينهم على الإحساس بمراميها، وليس عندهم بصيص من ضوء الفكر يعينهم على الفطنة إلى اتجاهها العام، وقد استفحل أمر هذا الإضلال فتكونت جماعات وتجمعات فى مصر وفى بلاد العرب وغير العرب والمسلمين وغير المسلمين وتولى أمرهم من هم على تلك الشاكلة من الجهالة وانعدام الفقه فلا هَمَّ لهم إلا إثارة عواطف الشباب بالحديث عن الحرب والجهاد وتطبيق العقوبات البدنية والدموية، وهدم التماثيل والآثار والحكم على من خالفهم من المسلمين بالكفر الصراح. وكونوا العصابات المقاتلة وأنشأوا المعسكرات، واستغلهم الطامعون الكبار فأمدوهم بالعتاد والسلاح، فكانوا شرا على الإسلام وحرباعليه، وأشد إيذاء لأهله من مخالفيه فى المعتقد، وهم يحسبون أنهم ناصروه. هذه مصائب طامة فكيف نواجهها؟ والجواب أن العدوان المسلح لا بد أن يواجه بأشد منه، فلا تهاون معه وهذه مسئولية قوى الأمن الوطنى من الشرطة والجيش، وأما العدوان الفكرى والوجدانى الذى يستهدف الشباب فلا بد من مواجهته بتربية الشباب وتعليمه التعليم الصحيح الذى يطلق من قواه العقلية والنفسية وهذه مسئولية المؤسسات التثقيفية والتربوية ويحمل الأزهر النصيب الأوفر منهاوقد فطن مبكراً إلى قيمة التعليم الصحيح الإمام محمد عبده عبقرى الإصلاح والتعليم لأنه جمع بين الدعوة إلى التعليم والدعوة إلى إصلاح الأزهر. وإن لم نأخذ أمر تربية الشباب وتعليمه مأخذ الجد والمتابعة المتواصلة فسوف تتوالد أجيال بعد أجيال وهى تنساق وراء هذه الدعوات الفاسدة المفسدة فيرثون عنها حدة الغضب وضيق الأفق والاستعداد للتخريب أما إذا تربى الشباب على الفهم العقلى المتعدد الرؤية لنصوص الدين فسوف يتصلون بروح الإسلام السمحة. وإذا كنا نريد تجديد الخطاب الدينى فلنأخذ أنفسنا بفضائل الإسلام قبل أن ندعو غيرنا إليها ولا نجعل الإسلام سلعة نصدرها لغيرنا ثم لا نفيد منها فكيف يتردد بعضنا فى الدعاء بالرحمة لإخواننا فى الوطن الذين قتلوا غدراً وقهراً بحجة أنهم يخالفوننا فى المعتقدات وهؤلاء المعترضون يحفظون القرآن ويتلون قول الله تعالى على لسان المسيح بن مريم فى مشهد القيامة: «إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم» المائدة من الآية 118 فالمحاسبة على المعتقدات متروكة لمشيئة الله وليس لأحد أن يدعى لنفسه السلطة على ضمائر الناس حتى النبى نفسه صلوات الله عليه :«فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب» الرعد من الآية 40 «وما أنت عليهم بجبار» سورة ق من الآية 45، وتجديد الخطاب يقتضى أن يفهم الدعاة أن الحياة تتطور وتتغير، والنبى يقول فى إيجاز «لا ضرر ولا ضرار» فرب أمر غير محتمل فى عصر أو مكان يصير محتملاً فى عصر أو مكان آخرين وقد يصير النافع ضاراً والضار نافعاً والطاقة البشرية محدودة والإنسانية تنمو وتترقى فى سلم الحضارة ولا يمكن أن تحكمها رؤية ثابتة المفهوم تحيط بالأزمنة والأمكنة. كلها إحاطة حديدية فلابد أن تتغير الأحكام تبعاً للتغيرات الإنسانية وكل ما فيه خير ولا مضرة منه فالدين لا يعوقنا عنه بل يحثنا عليه لأن الدين للإنسان وليس الإنسان للدين. لمزيد من مقالات د. محمد فايد هيكل