كان يا ما كان، يا سعد يا إكرام ما يحلى الكلام إلا بذكر النبى عليه الصلاة والسلام.... وتوتة توتة خلصت الحدوتة.. «عبارات استنام لها الصغار وأمتعت الكبار على مر العصور تكاد تندثر لتختفى من حياتنا وتضيع معها لحظات دفء إنسانى والتفاف حول أقدم مدونة أبدعتها القريحة الشعبية المصرية بسبب دعاوى التمدن وما استحدثته التكنولوجيا من وسائط ووسائل للترفيه والتسلية عبر برامج وألعاب لحواسب آلية من أشهرها جنون تهشيم الحلوى أو بتعبير آخر ال«الكاندى كرش»!! فرغم عدد الدراسات والبحوث التى تكتظ بها المعاهد العلمية المتخصصة والمكتبات العامة التى تؤكد أهمية الحدوتة فى التنشئة الاجتماعية ومد بساط التواصل والاتصال بين مفاهيم وضوابط أخلاقية تسعى الجماعات البشرية لاستمرارها، تكشف دراسة الباحثة نشوى شعلان «الحدوتة والاتصال» أن الحواديت التى كانت جزءا من الحياة اليومية فى الريف والحضر باتت أشبه بكيانات متحفية لا نوليها اهتماما تستحقه أو نتذكرها اللهم إلا فى مناسبات قليلة، وأن طقوس رواية الحدوتة التى كانت تخلب لب الصغار ويستمتع بها الكبار اختفت وأصبحت فى خبر كان!! وتشير نتائج دراسات، منها دراسة للباحثة فاطمة القلينى وأخرى لزينب بهنساوى للحدوتة باعتبارها وسيطاً تربوياً يتيح للطفل اكتشاف نفسه وبيئته والوصول لإجابات عن أسئلته وشحذ ملكة الخيال وحب الاستطلاع والتفكير، والقدرة على التحليل والنقد من خلال التواصل المباشر مع الراوي، إضافة للقيم الثقافية التى تترسب فى عقل الطفل من الحكايات التى يسمعها من مختلف المصادر.. كما أشارت أكثر من دراسة إلى أهمية الحدوتة ودورها فى الارتقاء بخيال وتشكيل شخصية الصغار وزيادة حصيلتهم اللغوية وبث وضبط القواعد الأخلاقية وتشجيع تبنى القيم المقبولة اجتماعيا. كذلك فقد تناول بعض الباحثين الحكاية من منظور اجتماعى فدرسوا دورها كإحدى وسائل التواصل بين البشر وباعتبارها تجسيدا للإرادة الجمعية ووسيلة لاستمرار منظومة قيم وخبرات حياتية تتناقلها الأجيال. مع ذلك فقد كشفت الباحثة نشوى شعلان فى دراستها التى أجرتها فى قرية كفر الأكرم بمحافظة المنوفية -والتى مثلت نموذجا للبيئات السائدة فى المجتمع المصرى من حيث محاولة التطور وملاحقة العصر وارتفاع نسبة التعليم مع الاحتفاظ بأساسيات بنية المجتمع الريفي، حيث تلعب الأسرة دورا رئيسيا فى تشكيل وعى النشء والحفاظ على العادات والتقاليد- عدداً من النتائج التى تستحق التأمل فى سياق الدراسات المُشار إليها فيما سبق من سطور. فبرغم ارتفاع نسبة التعليم بين أبناء القرية إلا أنهم يؤمنون بالخرافات ويحرصون على التمسك بالعادات المتوارثة التى كانت الحدوتة ومجلس الحكى إحدى وسائل الحفاظ عليها واستمرارها. وتشير الباحثة إلى أن مجالس الحكى بكل طقوسها كادت تختفى بتأثير التحولات التى لحقت بمجتمع القرية وإدمان وسائل الاتصال الحديثة «والفيديو جيم والبلاى ستيشن والكمبيوتر» التى جعلت من نفسها بديلا قويا للحدوتة ولجلسات السمر لتمتعها بخاصية الإبهار السمعى والمرئي. وتعرف الباحثة الحدوتة فى دراستها التى مزجت بين الدراسات الفلكورية وقواعد علم الاتصال بأنها «نصوص نثرية قصيرة، لها شكل محدد له بداية ونهاية ثابتتان، لا ترتبط بزمان أو مكان وتقع أحداثها غير الواقعية عبر شخصيات عادة ما تكون غير حقيقية »، موضحة أن معظم رواة الحواديت من النساء وأغلب جمهورها من الأطفال الصغار، وأن الحدوتة تقوم بمجموعة من الوظائف الأساسية كالتربية والتسلية. وتشير الباحثة إلى أن الحدوتة الشعبية ليست بمعزل عن المجتمع والظروف التى تحكمه وبالتالى فقد تأثرت بوسائل الاتصال فأوشكت مجالس القص أن تندثر بظهور «الفيديو جيم والبلاى ستيشن» وبرامج الكمبيوتر التى تحولت لبديل للحدوتة لتمتعها بإمكانات مُبهرة جعلت الطفل مشاركا أساسيا فى إحداثها ومحركا لأحداثها، إذ يتوقف عليه الفوز والإخفاق فى اللعبة بعد أن كان مجرد متلق، أعظم أماله أن تذكر الراوية اسمه وكأنه أحد أبطال الحدوتة!! ولعل من أطرف ما جاء فى هذه الدراسة وصف الباحثة لمجالس الحكى وتغيرها بتغير الفصول ودخول الكهرباء واختفاء الفرن الشهير، وتنويعات حواديت الرواة.. ويظل السؤال الذى تطرحه هذه الدراسة وغيرها من البحوث الفولكلورية والاجتماعية والتربوية.. «ماذا لو أعدنا صياغة هذه الحواديت لتصبح فنونا وألعابا عصرية تكشف لنا، صغارا كنا أم كبارا، حقيقة تراثنا المصرى ومنظومته القيمية التى حفظت نسيج المجتمع المصرى على مر العصور بدلا من إهدار الوقت فى صيد الدجاج وتهشيم الحلوي؟!» لمزيد من مقالات سناء صليحة