غريبة تلك الأجواء وهذا الفضاء المشحون بالشكوك وفقدان الثقة، هذا ما يلمسه المراقب والمتابع للحياة الاجتماعية فى الأناضول العريض، فثمة سخط على ما آل عليه الداخل وتلك السمعة السيئة التى لصقت بتركيا خصوصا في السنوات القليلة الماضية. والحق لم يكن يخطئ بولنت ارينتش المسئول الحكومي البارز حينما إعترف بإتساع حجم كراهية مواطنيه لحزبه الحاكم، وكيف يحبونه والفساد يستشرى في أوصال الحكم ورموزه، المفترض أنهم القدوة، وها هم قطاعات من الشعب يتحسرون وقد أصابتهم الحيرة، ونادرا ما يخلو أى تجمع، من الحديث عن تفشى العمولات والرشاوى، ثم تأتى المفارقات، فاللصوص أطلق سراحهم حتى الوزراء الذين وجهت لهم إتهامات بإستغلال النفوذ وتورط أبنائهم في صفقات مشبوهة، رفض البرلمان إحالتهم لمحكمة الديوان العليا، أما الذين أزاحو الستار عن الجناة، وهم متلبسون بالصوت الصورة، فمنهم من كانوا مصيرهم أسوار السجن، والآخرون نقلوا تعسفا من وظائفهم. أمام قتامة تلك المشاهد، ولفك ألغاز حكامهم الذين يظهرون وهم يرتدون أثواب التقوى والورع، توقع البسطاء أن يخرج عليهم رجال الدين بردود تبصرهم وتقطع الشك باليقين حول موقف الإسلام تجاه ما يحدث، لكن صدمتهم كانت مروعة، فلا أحد منهم تبرع برد. ثم بعثوا برسائل لرئاسة هيئة الشئون الدينية عبر موقعها الإلكترونى، إلا أنها تجاهلت الأمر برمته، ومع هذا لم ييأسوا وقام البعض منهم بتوجيه نفس السؤال مع تغيير طفيف تجنبا للحرج : هل الرشوة والفساد جائزة من الناحية الدينية؟، ولأن الإجابة حتما ستكون ب " لا "، وهو ما يدين بالتالى صناع القرار، لم يأت الرد وبعد أكثر من عام قامت الهيئة بحذف كافة الإستفسارات من صفحتها على البريد الإلكترونى، غير أن اللافت والمثير للعجب العجاب، هو ما أدلت به ذات المؤسسة المسئولة عن تشكيل الوعى الدينى لمواطنيها حول إستفسار : هل يجوز بناء المساجد بأموال جاءت من مصادر محرمة شرعا ؟، هنا جاء الجواب نعم " يجوز"!، وكان هذا كفيلا فى أن يثير الصخب والتندر على مواقع التواصل الاجتماعى، التي أجمع زوارها على أن هيئة الشئون الدينية تقف بجانب فساد حكومة حزب العدالة والتنمية . ولم لا ؟ فقد أعادوا إلى الأذهان قصة السيارة الفارهة، التى قيل عنها إنها مصفحة وتم تخصصيها لرئيسها سايجون محمد جورماز، ومن ثم هل يعقل أن يدلى الأخير بفتوى أو رأى يدين صاحب الفضل الذي منحه الليموزين البيضاء؟! جورماز لم يكن هو وحده العازف فى دوقة المنافقين، فقبل أسبوعين فوجئ الرأى العام بأستاذ شريعة كتب أكثر من مقال هاجم فيها أهل الحل والعقد، لحالة الترهل وانعدام الشفافية وغياب القانون بالبلاد، ودعا أردوغان إلى تطبيق العدل بحسم، ثم فجأة يعود لينقلب إلى النقيض مدافعا ومؤازرا، قائلا " إن الجميع يعرف أن رئيس الجمهورية رجب طيب أردوغان وحزب العدالة والتنمية باتا هدفا لمن يطلقون حملات الدعاية السوداء مثلما حدث في التاريخ عن طريق الإستمرار فى الإدعاءات وإلصاق التهم جزافا، ثم ذهب إلى ما هو أبعد ليؤكد إن وصف جرائم الفساد على أنها سرقة، ما هو إلا خطأ وكذب وإفتراء وفقا للقوانين العلمانية وقانون الجزاء الإسلامى أيضا" . وكانت علامة الإستفهام الكبيرة، ما الذى جعل الرجل يبدل آراءه بهذه السرعة، ولم يمر وقت طويل، إذ تبين أن نجله عين رئيسا لإحدى الجامعات فى إسطنبول..!!