لا شك أننا كعرب فى حاجة إلى رؤى جديدة لصياغة خطاب اسلامى يقدر تأثير معطيات العصر وتطور العلاقات وأنماط التعاطى مع المعرفة وتطورها من التلقى الى التفاعل ومن أحادية المنبر إلى تعددية الشبكة، ومن المطلقات إلى رفاهية اختيار اليقين المعرفي، خطاب لا يقتصر على معيار الصحيح والخطأ وحده بل يضيف إليه معايير تتعلق بالأنسب والأنفع الناس.. خطاب يلبى احتياجات شعوب عبرت عن رفضها الاستبداد السياسى والتخلف الاقتصادى والجمود الفكرى الذى فرض عليها لعقود طويلة.. نعم نحن فى حاجة ملحة إلى تجديد الخطاب الدينى لأننا فى حاجة إلى تدارك النقص والاختلال الذى شهده الفكر والفقه الاسلامى خلال عهود التراجع الحضاري، والذى أسفر عن تضخم فى مجال العبادات وفقر فى المجال الدستورى والحقوقى والسياسى نتج منه خطاب جزئى ركز على الشكليات وأغفل الكثير من القضايا الجوهرية فى حياة الناس وبخاصة كرامة الانسان وحقوقه وحريته حتى أطلق عليه البعض ساخرا فقه (الحيض والنفاس) فالثقافة العربية المعاصرة بمناحيها السياسية والدينية وحتى الاجتماعية برغم حداثتها الظاهرية مازالت تنتمى بمجملها للمنظومة المعرفية التى ترى أن هدف الحياة الإنسانية محدد مسبقا، وهو السعى لدوام الجماعة واستقرارها وتماسكها الاخلاقى والانتمائى وخلاصها الدينى دائما على حساب الفرد وحريته وأحيانا على حساب حياته وترى هذه المنظومة أن الطريق إلى هذه الغاية معروف ومرسوم وأن هناك أسلوبا واحدا صحيحا للوصول إليها، وكل ماعداه مخطىء أو مغرض أو كافر أو متخلف فى حين أن المنظومة المعرفية العالمية المعاصرة التى أثقلها المخاض الحداثى فى بداية القرن العشرين بما شهده من أهوال الحروب العالمية والهيمنة الاستعمارية التعسفية وصعود الأنظمة الفاشية بجميع تلويناتها.. هذه المنظومة تنتمى أساسا لمجموعة الأفكار التى ركزت على أولوية الانسان الفرد المفكر والعاقل وعلى لزوم الشك فى كل منظومة شمولية تحد من حريته وعلى القبول بالرأى الآخر كوسيلة لدفع الحوار والوصول إلى إجابات مقبولة لكل الأطراف. ومن هنا فإن المنظومة السائدة لا يمكنها التأقلم معرفيا مع المنظومة العالمية المعاصرة لأنها تتحدث لغة غير لغتها.. لغة لا يمكن فهمها ضمن الأطر التى تعتمدها المنظومة العربية فى تبرير تسلطها وقراراتها وسياساتها، وهذا هو الشرخ المعرفى العميق الذى يواجهه العالمان العربى والاسلامي، وليس هناك فرق اساسى بين ما تدعيه الأنظمة الحاكمة عندما تحجر على حرية الأفراد بحجة الأمن والنظام وقيم المجتمع وعقائده وتراثه، وما تدعيه الحركات الدينية المتطرفة والمغالية عندما تغتال آراء بعض الأفراد (أو الأفراد أنفسهم أحيانا)بحجة مروقهم وكفرهم وضلالهم أو ارتباطهم بجهات أجنبية (دون دليل حقيقي) أو انتمائهم الفكرى لبيئات غربية وخارجية وما شابه ذلك من الاتهامات التى لا تتناول ابدا لب المشكلة ولا غرابة فى هذا الوضع من وجهة النظر التاريخية فالثقافة العربية لم تعان الحداثة وجوديا ومعرفيا ولم تمر بالهزات العميقة التى مرت بها المجتمعات الأوروبية خلال اكتشافها حداثتها بل أن الحداثة ومستحقاتها من هياكل معرفية وسياسية واجتماعية واقتصادية قد فرضت عليها فرضا فى ظل التدخل الأوروبى الاستعمارى الحديث وما تلاه من ظهور الدول الوطنية بأنظمتها الإدارية والسلطوية بعد جلاء المستعمر. ولا تختلف ردود أفعال غالبيتنا اليوم عن ردود أفعال اجدادنا فى القرن التاسع عشر عندما جوبهوا بضراوة هجوم الغرب متنامى السيطرة الذى بات يهدد سلطتهم فى بلادهم بعد أن كان قد قضى على أى نفوذ لهم خارجها فقرروا، إما تقليده لتلافى تهديده ومن ثم مجابهته أو الإنكفاء على أنفسهم وتناسى التحدى آملين بحل ما وعندما فوجئ بالغرب ينزل عليهم فى بلادهم محتلا ومستغلا ويجبرهم على تقليده وفق هواه ووفق مخططاته الاستعمارية اضطروا للانصياع، لكن هذا التقليد سواء منه المقتبس محليا أو المفروض استعماريا لم يتجاوز المظاهر والقشور فلا الحكام المحليون وأعوانهم، ولا الطبقات المثقفة والمتغربة كانت جاهزة لتهيئ تربة صالحة لبزوغ حداثة خاصة بالشعوب العربية، فقد تم إنزال المظاهرة الحداثية تنزيلا على القواعد المعرفية الموجودة دون محاولات جادة لتطويرها أو مراجعتها ونقدها إلا فيما ندر. فى هذا المحيط المعرفى الراكد لابد من أن يكون الطريق إلى تحقيق بعض الحداثة الحقة فى العالم العربى شاقا وطويلا ومعقدا، فالانظمة السياسية والمنظمات الدينية التقليدية السادرة فى غيها الشمولى والاستبدادى لا يمكنها السماح بذلك دون التخلى عن هياكلها وقواعدها المعرفية التى هى أسس ومبررات وجودها وتسلطها وهى لذلك تواجه التحدى الذى بزغ برأسه مع ثورات الربيع العربى بعنف غير مسبوق لادراكها أن أى تفكير أو تغيير خارج إطار الجماعة يمكن أن يفتح عليها الصندوق الأسود المقفل بكل أفاعيه وسمومه وبكل تناقضاته ومهازله وحساباته المؤجلة وقد يؤدى فتح هذا الصندوق إلى ثورة ثانية تعيدنا إلى الحاضر الحداثى والمعاصر والذى من حق الشعوب العربية أن تنتمى إليه وهذا هو حقها الأهم. د. عماد إسماعيل