هل نحتاج الى ثورة فى دوائر الموسيقى والأوركسترا والأوبرا المصرية تتناسب مع روح ثورتى المصريين فى يناير ويونيو؟ هل امتد الشعور بالحاجة إلى فن أوبرالى وموسيقى كلاسيكية تعبر عن الروح المصرية وعن المصريين.. الى دار الأوبرا المصرية؟ تثور هذه الأسئلة والتساؤلات فى ذكرى واحد من رواد الفن الموسيقى والأوبرالى المصرى الصميم, الذى رحل عن عالمنا فى عز ثورة المصريين على الديكتاتورية والمطالبة بالحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية. ونحن نستعيد الذكرى نتطلع لأن تولى السلطات الثقافية والفنية فى مصر الثورة عناية بانتاج الأوبرات والأعمال الموسيقية لهذا الرائد وغيره من رواد الفن الذين حال نظام عصر إهانة مصر والمصريين دون تقديمها والاحتفاء بها لأنها تعبر عن الروح والشخصية المصرية. كامل الرمالى (1 اكتوبر 1922 11 فبراير2011) هو واحد من رواد الثقافة الموسيقية الكلاسيكية المصرية وهو مؤلف أول أوبرا مصرية يتم عرض فصول منها على المسرح وله مؤلفات وأوبرات أخرى فهو صاحب مجموعة مميزة من المؤلفات وفى رصيده ثلاث أوبرات هى «حسن البصري» و«نفرتيتي.. الجميلة الآتية» و«الساحر» وهو بذلك يعتبر المؤلف المصرى الوحيد الذى كتب ثلاث أوبرات. وله قصيدان سيمفونيين هما: «قناة السويس والطائر الأسطوري» والسيمفونية الريفية .. متتالية سيمفونية «نوبيا» تنويعات سيمفونية و «بلدي» متتالية شعبية للأوركسترا «صور شعبية» و «المقامات» للأوركسترا ، فانتازيا للأوبرا والاوركسترا ورباعية وترية «الرباعيات» سوناتا للتشيوللو والبيانو. ومقطوعات للبيانو والارغن، أغان منفردة وجماعية بمصاحبة البيانو أو الأوركسترا وأعمال أخري. وكتب عنه الناقد الموسيقى الانجليزى المخضرم ديفيد بليك مقالا نشرته «الاهرام ويكلي» : كامل الرمالى مؤلف موسيقى متميز ومحترم، إن قوالبه الموسيقية وتكويناتها وتخطيطها تلائم أعماله الموسيقية العديدة وهى ذات طابع محترف كما أنه يستطيع أيضا أن يواصل فكرة موسيقية لفترة طويلة مما يدل على أن تخطيطه الموسيقى قائم على دراسة وخطة مرسومة بعناية. إن موسيقاه المؤلفة لها مذاق خاص وهى ذات طابع يشبه أسلوب ريتشارد شتراوس وهذا ليس عيبا. فكل الموسيقيين أصحاب الأسلوب المميز يفعلون ذلك. إن قدرته المميزة خاصة فى هذه الأوبرا « حسن البصري» هى قدرته اللحنية حيث يستطيع حقا أن يواصل أفكاره بثبات. ولنتابع قصة تقديم أول أوبرا مصرية: فى السادس والعشرين من ابريل من عام 1956شهدت الحياة الثقافية والفنية فى مصر مولد نوع جديد من الفن المصري.. هو الأوبرا.. فقد عرضت فى هذا اليوم على مسرح قاعة «ايوارت» التابع للجامعة الأمريكية فى القاهرة، أول أوبرا مصرية.. كان انجاز أوبرا مصرية الحلم الجميل الذى راود كل محبى الموسيقى الرفيعة فى مصر- كما يقول المؤرخ والناقد الموسيقى احمد المصرى – ويضيف: إذ كنا نفتقر إلى الأجهزة الفنية اللازمة من صوليست وكورال وأوركسترا، لذلك اقتصر نشاط دار الأوبرا المصرية القديمة على تقديم بعض المواسم الأجنبية. وبعد ثورة 1952استطاعت الأوبرا استكمال العناصر الغنية التى يتطلبها تقديم مثل هذا العمل الفنى الكبير وتوافر الفنان كامل الرمالى عندما وجد النص الشعرى المناسب الذى استوحاه الشاعرمحسن الجوهرى من قصص ألف ليلة وليلة، على تلحين هذه الأوبرا فى أسلوب فنى يتصل اتصالا وثيقا بالتراث الانسانى للموسيقى العالمية، وإن لم يفقد صلته إطلاقا بموسيقانا العربية إذ نجح فى تطويع علوم الموسيقى الأوروبية لخدمة الموسيقى المصرية. وظهرت أول أوبرا مصرية.. «أوبرا حسن البصري» ورغم اعتمادهاعلى الشكل البنائى للأوبرا الأوروبية، فهى وثيقة الصلة تماما بموسيقانا المصرية المتطورة، واستطاع كامل الرمالى أن يحقق هذا الحلم الكبير الذى كثيرا ما انتظرناه منذ زمن طويل.. وكان ذلك منذ 60 عاما. وفى ذكرى مرور نصف قرن من الزمان على انطلاق أول أوبرا مصرية أقامت الجامعة الأمريكية فى القاهرة احتفالا فى ذات القاعة التذكارية التى شهدت ميلاد أوبرا حسن البصرى وقدمت خلاله مختارات منها. وفى الذكرى قدمت أكاديمية الفنون مشاركة فى الاحتفال من خلال دراسة صدرت فى كتاب ضمن إصدارات الأكاديمية باشراف رئيس الأكاديمية الدكتور مدكور ثابت، جاء فيها: أن أوبرا حسن البصرى هى أول محاولة معروفة من نوعها فى التاريخ المعاصر لثقافتنا المصرية لابتكار وخلق شكل فنى جديدعليها وإن كانت الثقافة الغربية تعرفه منذ مئات السنين.. وقد فكر أصحاب هذه المحاولة الأولى أن ثقافتنا الحديثة التى استوعبت قوالب فنية أجنبية مثل المسرح والرواية والقصة القصيرة.. وغيرها، وقدمت من خلالها أعمالا مصرية عربية أصيلة وصادقة ورفيعة، قادرة على استيعاب فن الأوبرا ليجد له مكانا فى بستانها الرحيب. عمر هذه التجربة الآن نحو 60 عاما، منذ كانت خطوطا أولية، أو فكرة هائمة فى وجدان وعقل شاب مصرى يدرس الآداب فى جامعة الاسكندرية ويعشق الموسيقى درسا واستماعا، عزفا وتأليفا. فى مطلع عام 1950 نشرت بعض صحف القاهرة أخبارا وتحقيقات عن أول أوبرا مصرية مستمدة من قصص ألف ليلة وليلة ومكتوبة شعرا عربيا فصيحا ووضعت ألحانها على النسق الكلاسيكى الغربى ولكن بروح وموسيقى مصرية عربية، وتضم أثنى عشر منظرا. ومضت ست سنوات قبل أن تعود الصحف إلى الإعلان عن حفل موسيقى يتضمن عرضا للفصل الثانى من أوبرا حسن البصري، أول أوبرا مصرية. وعلق على هذا الحدث، المحاولة، الشاعر صلاح عبد الصبورقائلا: شرف المحاولة، أرفع الأشياء قدرا، ومن ارتاد أرضا بكرا فقد قام بعمل بطولي، ونحن أحوج مانكون إلى الرواد الذين يرتبطون بالغايات البعيدة ويطمحون إلى تحقيق العزيز من الأمور، وجل جهد هؤلاء الرواد أن ينبهوا الأذهان إلى جوانب لم تحقق بعد، وفى مصرنا الكنانة مازال التخلف الحضارى يمتد فى شتى أنواع النشاط الانساني، ولن تكون لنا مصرمعاصرة إلا إذا واكبنا ركب الحضارة العالمية. أقدمت على تأسيس فن أوبرالى مصري، مع مؤلف الموسيقى ومؤلف الأشعار، مجموعة من الفنانين والفنانات والموسيقيين العازفين والمغنين والمغنيات والمخرج ومصممة الأزياء والباليه ومدربى الأصوات وفرقة الباليه وقائد الأوركسترا احمد عبيد قائد فرقة أوبرا القاهرة ( وهى فرقة خاصة). ويوسف عزت الذى أدى غناء وتمثيلا دور «حسن البصري» ونهاد توفيق التى ادت غناء دور «بدر البدور».. وحمدى غيث المشرف المسرحى على العرض ومدام نيكولز مصممة الباليه، وقائدة فرقة الباليه والاستاذ فافيادس مدرب الأصوات واستاذ الغناء بالمعهد العالى للموسيقى المسرحية. كانت محاولة شابة أقدم عليها فنانون معظمهم من الهواة ومحبى الابتكار والتجديد وقدموها على نفقتهم الخاصة وبجهود تلقائية وإمكانيات مادية محدودة جدا. وكانت المحاولة غريبة جدا فى آذان وعيون وأفهام النسبة الغالبة من المسئولين الرسميين وشبه الرسميين، ومن قادة الرأى والفكر ومشاهير كتاب الأعمدة فى الصحافة فى ذلك الوقت، وكانت الأجواء العامة فى مصر فى ذلك الوقت ( مطلع عام 1956) تتمثل فى تصاعد الشعور الوطنى وقيادة الضباط الأحرار لمختلف مجالات الحياة. فالإحساس العام السائد وقتها هو الرغبة فى القضاء على كل ماهو أجنبي.. تحررنا من الاحتلال وحققنا الجلاء وبقى لدينا إحساس عام بالعداء للغرب.. ولكل ماهو غربي.. ويضاف إلى ذلك عامل آخر هو الإحساس بأن الأوبرا هى فن مرتبط بالخديوى والعائلة المالكة والطبقات الأرستقراطية، والإقطاع والفئة التى تعاونت مع القصر والاستعمار! وكانت بعض أجهزة االدولة المعنية بالفنون فى ذلك الوقت (مصلحة الفنون) مشغولة بمشروعات فنية مستمدة من التراث الشعبى «الفولكلور» المحلى فى مصر وتستعد لتقديم الأوبريت الشعبى « ياليل ياعين». ثم جاءت فرقة أوبرا القاهرة لتقدم الأعمال المصرية المتطورة وكان لابد من تطويقها حتى لا تواصل السير فى هذا الطريق الذى وجدت من أجله، لهذا سارعت مصلحة الفنون ( التى عارضت الفكرة أشد المعارضة) بالإعلان عن تكوين فرقة كورال ضمت نفس العناصر بل استخدمت نفس الاسم وهو «كورال أوبرا القاهرة» واختارت لها استاذا ايطاليا لتدريب أفرادها هو «ايتورى كوردوني» وحولت مسارها لخدمة الأوبرا الإيطالية، لكن كان الهدف هو سد الطريق أمام أى محاولة لتقديم أوبرا مصرية فى ذلك الوقت. والإيحاء بأن الأوبرا وغيرها من ضروب الموسيقى الرفيعة هى فنون خاصة بالغرب وحده. وكان المد الوطنى قد فتح مجالا لتيارات ومذاهب فنية كانت ممنوعة ومحاصرة. فكيف فى مثل هذا المناخ الوطني، تأتى هذه المجموعة من الفنانين ومعظمهم شبان لم يسمع بهم أحد من قبل، وتقدم أوبرا وسيمفونيات وكورال وموسيقى مصرية فى قالب غربي.. وباليه..؟! ثارت ثائرة الأغلبية ..وربما كانت لبعضهم مصالح شخصية، أو ضحالة فى الثقافة الموسيقية الكلاسيكية .. أو رغبة خفية فى الدفاع عن كبار نجوم الطرب. وكان صاحب أعلى أصوات الهجوم على هذه المحاولة غيرالمسبوقة، الأستاذ يوسف السباعى الذى كان يحتل منصب «سكرتير عام المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب» فى ذلك الحين، بينما كان بحكم منصبه مطالبا (برعاية) هذه التجربة البكر، فقاد حملة قاسية من الإهانة والهزء والسخرية والإساءة للتجربة.. والمشاركين فيها، وحتى من تعاطفوا معها، وهم قلة محدودة من الكتاب والفنانين والأدباء. ومن بين ماقاله وأثاره سيادته ( الذى أعلن بوضوح مع ذلك أنه حضر الحفل ولكنه غادره قبل أن يشهد ويسمع الأوبرا): «نحن نريد حقا أن نجعل موسيقانا عالمية ولكنها يجب أن تكون أولا موسيقانا وثانيا عالمية. يجب أولا أن تطربنا.. وثانيا تطرب العالم، أما أن نضع كلامنا فى قوالب غربية تهرس نصفه وتمضغ النصف الباقي، فهذا عبث يجب أن نقضى عليه. وفساد فى الذوق وخداع يجب أن نجتثه من جذوره». وتصدى للرد على سخريات وسخط سكرتير عام المجلس وآرائه، الكاتب الصحفى سامى داود الذى كتب فى «الجمهورية»: ان التطريب ليس هدف الموسيقي.. ولاطبيعتها بمفهومها العالمي، ولدى الناس فى أنحاء العالم الصنفان.. لديهم الموسيقى وأغانى التى تطربهم وترقصهم، ولديهم الموسيقى والغناء الذى لايطرب ولايرقص ولكنه يحرك النفس ويوقظ المشاعر، ويوقوم بنفس الدور الذى يقوم به الأدب والتصوير والنحت وسائر الفنون، الدور القيادى لا دور الاستجابة لاهواء الجماهير. وإذا كان البعض لايفهم الموسيقى الجادة ولايفهم السيمفونيات العالمية أو يعتبر أغانى الأوبرا صراخا وصياحا، فليس هذا البعض ملوما، كل ماهنالك أن أذنيه لم تتعود بعد غير فن «العتبة الخضراء»! وطالب سامى داود المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب بتشجيع خلق الموسيقى الجادة وأن يعمل على إذاعتها واشاعتها حتى تعتادها الأسماع هنا، وتقبل عليها وتجد فيها متعة أرفع كثيرا من متعة الطرب.. وقال: اننا نهضم الآداب الأجنبية ونقبل على قراءتها، فمابالنا نتوقع أننا لن نهضم الموسيقى العالمية التى يهضمها سكان العالم بأسره..إن الأوبرات العالمية إذا أحسن أداؤها استطاعت أن تحرز إعجاب السامعين حتى فى مصر. واستمر الجدل حول التجربة.. ولم يتم عرض الأوبرا كاملة على المسرح.. فهل نشهد قريبا عودة الروح للأوبرا المصرية بتقديم مؤلفات كامل الرمالى وغيره من الرواد بانتاج واخراج مصرى يستمتع به محبو هذا الفن الراقى ويتعرف من خلاله العالم على مكانة مصر فى عالم الفنون والموسيقى الكلاسيكية.