ربما هي من الدول التي نزورها ونحن محملون بأحكام مسبقة، ثم نكتشف أن بعضها حقيقي أو بعضها الآخر غير حقيقي، وربما هذه المدينة ليست في شهرة مدن ألمانية أخرى مثل ميونخ وفرانكفوت وشتوتجارت لكن الغريب أنها الأقدم، إنها «ترير» وبالألمانية «Trier» وبالفرنسية « «Trèves، وهي مدينة أنيقة مليئة بالمساحات الخضراء والزهور الملونة والمباني القديمة المنمقة. وتقع ترير في جنوب غرب ألمانيا ضمن ولاية «راينلند بالاتينات».وألمانيا هي جمهورية اتحادية ديمقراطية، وبرلين هي أكبر مدنها وهي العاصمة ومقر السلطة فيها.والنظام السياسي اتحادي فيدرالي، فتنقسم ألمانيا إلى 16 ولاية تتمتع كل منها بسيادتها وحكومتها المحلية الخاصة.ومن العرب من يقول أن هؤلاء يعرفون لغات أخرى لكنهم يرفضون الحديث بغير الألمانية التي يعتزون بها، سنتذكر مشقة البطل فى التفاهم مع المارة فى فيلم»النمر الأسود»، أو نتذكر حوادث مؤلمة، وأقل شىء يمكننا أن نسمعه أنهم منغلقون على أنفسهم، ومن أفواه جيرانهم الأوروبيين نسمع قصصا مريرة، ومن لايزال يحمل غصة فى حلقه تجاههم بسبب ذكريات الحرب العالمية الثانية الأليمة، ومن الأوربيين أيضا من يحمل فى قلبه بعضا من التسامح فيقول إن الأجيال الجديدة قد تغيرت وأن هذه الأشياء تتعلق بالماضى، وبالفعل سنقابل الألمان منهم من يتعامل ببساطة ويتحدث الإنجليزية ومنهم من يتدارك الموقف ويبتسم ويظل يتفاعل متحدثا بالألمانية، وعموما ستترك ألمانيا بداخلنا مشاعر إيجابية، لأنها من أقوى الدول اقتصاديا وصناعيا وتنظيما في العالم. مقاطعة أو ولاية راينلند بالاتينات عاصمتها مدينة «ماينز»، وتقع الولاية في غرب ألمانيا، وتحدها من الشرق ولاية «هسن»، ومن الشمال ولاية «شمال الراين-ويستفاليا» ومن الجنوب ولاية «سارلاند»، أما من الغرب فتحدها دول أخرى وهي بلجيكا ولوكسمبورج وفرنسا.وتمر في الولاية أنهار مثل الراين وبها غابات البالاتينات وعدد سكّانها يبلغ 105٫260 حسب تعداد عام 2010، وتعتبر هذه المنطقة مفترق طرق ويسهل التحرك بين الدول بالنسبة للمواطنين أو حاملي تأشيرة الاتحاد الأوروبي عن طريق القطار أو الباص.
الجذور العرقية
وحسب الأسطورة المحلية التي دوّنت سنة 1105 في مجلدات ثلاثة بعنوان «أعمال التريفيريين» وباللاتينية «Gesta Treverorum» نسبة إلى قبيلة تريفير الكلتية، أن بناء مدينة ترير تم على يدي «تريبيتا» Trebeta، الابن الأكبر للملك الآشوري نينوس، وآشور هي أول دولة قامت في مدينة آشور في شمال بلاد ما بين النهرين حاليا العراق.وتزّوج الملك من سميراميس بعد وفاة زوجته الأولى، وبعد مماته اعتلت سميراميس عرش نينوى ويُقال أن اسمها الإغريقي سميراميس أما اسمها الحقيقي فهو سمورامات وأن من الناحية التاريخية توجد بعض الاختلافات عن الأسطورة، وكانت سميراميس تحتقر تريبيتا ابن زوجها، فرحل تريبيتا بعد وفاة والده إلى خارج المملكة مع أصحابه وخدمه متجها إلى أوروبا، وأبحر عبر البحر الأبيض المتوسط ليبحث عن مكان آمن، ثم قطع أرضا قاحلة وبعدها طرقا جبلية وعرة إلى أن وصل إلى واد هادئ محاط بالهضاب والجداول والغابات، وانبهر بجمال الطبيعة فقرر أن يبني مدينة له مع رفاقه على ضفة نهر موزل أحد فروع نهر الراين.وكان ذلك حوالي عام 2000 قبل الميلاد وعند مماته حرقوا جثته عند جبل بتريسبرج بنفس المدينة.وهذه القصة موجودة ضمن مجموعة من الوثائق البابوية والقصص ووثائق رؤساء الأساقفة للمدينة، ويوجد في قلب المدينة نافورة قديمة اسمها «نافورة تريبيتا».لكن المؤرخ الألماني يوهانس أفينتينوس لديه رواية أخرى ربما تكون أكثر واقعية وأقل سحرا من الأسطورة الشرقية، وهي أن تريبيتا ربما يكون تريفر أو تربير ابن مانوس ثاني ملك لألمانيا، وأن هذا الابن بنى مدن ماينز وسبيير وفورمز ومدنا أوروبية أخرى محيطة وهي ميتز وستراسبورج في فرنسا وبازل في سويسرا.ويبدو أن ترير ليست المدينة الألمانية الوحيدة المتعلقة بالشرق وترغب في أن يكون لها امتداد بالمنطقة العربية، فهناك الكاتدرائية الشهيرة الموجودة في مدينة كولونيا في الولاية الملاصقة شمال الراين- ويستفاليا، ويُحكى أن فكرة بنائها ولدت في عام 1164 بعد أن قام رئيس الأساقفة في مدينة كولونيا الكاردينال راينالد فون داسيلل بإحضار رفات المجوس الثلاثة من ميلانو إلى كولونيا كهدية من القيصر فريدريك الأول الذي احتل ميلانو في نفس العام.ووفقا للرواية التاريخية فيقال أن المجوس الثلاثة الذين تنبأوا بميلاد السيد المسيح عليه السلام، يبدو أن رفاتهم قد نقلت من القدس أثناء الحملات الصليبية.والمجوس الثلاثة أو الملوك أو الحكماء الثلاثة من الشرق هم ثلاثة أشخاص ذكروا في إنجيل متى (أصحاح 2) الذي يقول إنهم أتوا «من المشرق إلى أورشليم».
البوابة المهيبة ومن أهم معالم ترير «بورتا نيجرا» المأخوذة من اللاتينية وتعني البوابة السوداء، وهي بالفعل لها شكل مخيف وكأنها محترقة!وهي أضخم بوابة رومانية في شمال جبال الألب، ويرجع الاسم إلى العصور الوسطى بسبب اللون الداكن للأحجار، ولم يتم الحفاظ على الاسم الأصلي ويعتقد البعض أنها ببساطة كان إسمها «بورتا».وبُنيت البوابة سنة 175 بعد الميلاد من الحجر الرملي الرمادي الذي أصبح داكنا بمرور الوقت ولاسيما بسبب التلوث ووجودها في الشارع الرئيسي للمدينة ومعرضة لأدخنة السيارات، وتحولت إلى كنيسة مكونة من دورين في فترة من الفترات وأثناء مروره بالمدينة قام نابليون بونابرت بترميمها، وموقعها مدرج لدى منظمة اليونسكو ضمن التراث العالمي.كما توجد آثار رومانية أخرى مثل المسرح الروماني، وكاتدرائية ترير التي يطلق عليها الفرنسيون كاتدرائية سان- بيير وهي أقدم كنيسة في ألمانيا، والمنزل الذي ولد فيها الفيلسوف كارل ماركس، والذي يُعد أحد رموز المدينة، ورغم الاختلاف الأيديلوجي بين هذا الجزء من ألمانيا وبين أفكاره التي تبنتها الدول الشيوعية، فإن التذكارات التي تحمل صورته وامضاءه تُباع بجانب تذكارات الأماكن الأثرية هناك.وهو صاحب نظريات اجتماعية واقتصادية وسياسية عُرفت ب»الماركسية»، ولعب دورا في تطوير الحركات الاشتراكية، ويعتبره البعض أحد أعظم الاقتصاديين في التاريخ! ولد في عائلة غنية من الطبقة الوسطى في مدينة ترير في عام 1818فيما يُعرف بمملكة بروسيا آنذاك، وكان أبوه في بداية حياته يهوديا اسمه هرشل، ثم تنصر وغير اسمه إلى هنريخ، وقد أشار بعض المؤرخين أن تبديله لدينه كان حيلة اقتصادية ليستطيع كسب قوته في مجتمع مسيحي، وقد أرجع بعضهم نظرة ماركس إلى الدين (من أنه حيلة ووسيلة للعيش من خلال خداع الناس) إلى هذه الحادثة بالإضافة إلى الجو العام الأوروبي، وترتيبه الثالث من أصل تسعة أطفال، لكن أصبح أكبرهم عندما توفي أخاه موريتس عام 1819، وتعمد في الكنيسة اللوثرية..وبعد عدة تنقلات بسبب العمل أو النفي ذهب إلى لندن مع زوجته جيني فون ويستفالن وأطفاله حيث عاشوا فقراء ومات عن عمر يناهز 64 عاما.ويصعب علينا ذكر ألمانيا دون التطرق إلى أدولف هتلر، فهناك نكتة يحب الفرنسيون ترديدها، قائلين: عندما وعد هتلر كل مواطن ألماني بسيارة فلوكس فاجن في حالة انتصار ألمانيا في الحرب العالمية الثانية وعندما انهزمت ألمانيا أصبح لدى كل مواطن سيارة بي إم دابليو!!والنكتة توضح أشياء كثيرة عن العبقرية الألمانية التي أصبحت مثالا للشعوب، فهم لم يستسلموا للاحتلال ولا للانقسام ولا للتدمير بعد دخول قوات الحلفاء والاتحاد السوفيتي، وتحولت أزمتهم إلى تحد.. ومن ثم إلى نجاح فائق.