يرفض الكثير من أصحاب رءوس الأموال وافراد الطبقات الأكثر ثراءً فى المجتمع الاعتراف بأن السياسات والنظام الاقتصادى والتبعية والعولمة واللبرالية المتوحشة التى فُرِضَت على،وطُبِقَت في، مصر فى ال45 سنة السابقة هى التى ادت إلى تراجع التنمية وزيادة الهوة بين الاغنياء والفقراء وزيادة نسبة الفقر فى المجتمع، بل انهم ينظرون إلى الفقراء كما لو كانوا مرضاً اجتماعياً، وان لم يكن من الممكن استئصاله،فلا مانع من العطف عليهم لتحسين مظهرهم وتغطية اعراض المرض، ولذلك قد تجدهم (طبقة الأثرياء) يساعدون الفقراء من باب الصدقة والعطف،أومن باب زيادة ميزان الحسنات لدخول الجنة فى الآخرة، وهذا جيد وبالأخص إذا كان نابعا من نيات طيبة، ولكن غالباً مايكون ذلك من باب التباهى بالإحسان أو التظاهر بالقيام بدور اصلاحى فى المجتمع ومن باب الشهرة. وهذا يشير لمنطق الاغنياء غير المعلن والذى يفترض حتمية وجود الفقراء ليس فقط ليشعر الاغنياء بتميزهم الطبقى ولكن، وهو الأهم،للحفاظ على هذا التميز من خلال مواصلة الاستغلال المادى والمعنوى لفقر الفقراء. ولكن هذا المنطق يبعدنا عن العدالة الاجتماعية، احد اهم مطالب ثورة 25 يناير والذى لم يتحقق بعد، واقل ما يمكن ان يقال عن هذا المنطق إنه ضار بالمجتمع ككل،أغنياؤه وفقراؤه، وأكثر ضرراً للأجيال القادمة ومعيق اساسى للاستقرار والنمو والتنمية. وطبقا للإحصائيات المعلنة، يعيش 26% من سكان مصر فيما يُسَمى ال «فقر المطلق»، بالإضافة إلى 14% يعيشون على «هامش الفقر»، أى أن 40% من الشعب المصرى أو 34 مليون من ال85 مليون مصرى يعشون فى حالة فقر، وذلك دون أن نأخذ فى الاعتبار الملايين من الشرائح السفلى من الطبقة المتوسطة والتى تُدفَع دفعاً للحاق برفاقهم المُسَجَلين رسميا كفقراء. أى أن أربعة من كل عشرة مصريين يعشون على هامش الاقتصاد وليس لهم أى علاقة ولا بجانب العرض (الانتاج) أو بجانب الطلب (الاستهلاك). فعلى جانب العرض، لا شك أن الأجور المتدنية للفقراء تعكس مستوى انتاجية متدنيا لوظائف لا تحتاج مهارات أو خبرات، وهذا يعكس دورهم الهامشى فى العملية الانتاجية، أى أن هناك 40% هدر (آنى ومستقبلى اذا استمر الوضع على ما هو عليه) فى الطاقة البشرية التى يمكن ان تسهم فى زيادة العرض فى الاقتصاد وزيادة الانتاج والنمو والتنمية الآنية والمستقبلية. أما على جانب الطلب، فهؤلاء ال 34 مليون فقير لا يستهلكون الا ما يكفى لسد الرمق، أى انهم تقريبا لا يسهمون فى زيادة الاستهلاك وزيادة الطلب الكلى للاقتصاد وبالتالى لا يحفزون اصحاب المصانع ورءوس الاموال على زيادة الانتاج وزيادة الاستثمار. أما فيما يخص الميزانية العامة للدولة وعجزها، فمما لا شك فيه أن الحالة الصحية والتعليمية وحالة المسكن والمأكل للفقراء هى أسوأ من حالة الطبقات الاقل فقراً، الأمر الذى يحتم على الدولة توفير مزيد من المال العام فقط لسد الحد الأدنى من الاحتياجات الصحية والتعليمية والاسكانية والاحتياجات الاجتماعية الاخرى، وبطبيعة الحال يزداد العبء على الموازنة ويزداد عجزها. ويعد ذلك فى حد ذاته مشكلة،غير أن المشكلة الاخطر ان هذه الاعباء وهامشية الفقراء لا تتوقف بعد سنة أو سنتين أو ثلاث بل تستمر من جيل إلى جيل فى المستقبل، لأن ابناء فقراء اليوم هم فقراء الغد ذوو الصحة العليلة والتعليم الضحل والسكن العشوائى والمأكل السيئ والملبس المهترئ،وهم ايضا ذوو القدرة المتدنية على المساهمة فى زيادة وتحفيز كل من جانب العرض (الانتاج) وجانب الطلب (الاستهلاك) فى الاقتصاد. أى أن 40% من الشعب المصرى لا يُنتِج ولا يستهلك ولا يُحَفِز حركة الانتاج ولا يدفع لزيادة الاستثمارات. وهنا تأتى العدالة الاجتماعية كسياسية اقتصادية أنجع وكحل اقتصادى أمثل لكل الشعب المصرى أغنياؤه وفقراؤه وحاضره ومستقبله.إن العدالة الاجتماعية تسعى لرفع مستوى معيشة وزيادة دخول الطبقات الافقر وزيادة جودة وكم الخدمات العامة المخصصة لهم. فخفض نسبة الفقر من 40 إلى 30% يعنى زيادة الدخل ورفع مستوى المعيشة وتحسين الأوضاع الصحية والتعليمية لأكثر من ثمانية ملايين مواطن. وهذا يعنى ايضاً زيادة انتاج واستهلاك 10% من الشعب المصرى وزيادة مشاركتهم الفعالة فى العملية الانتاجية ودفع عجلة الانتاج والنمو. ويُزيد ذلك بالطبع من أرباح اصحاب رءوس الاموال ورجال الاعمال ويحفزهم على زيادة الانتاج والاستثمار لسد الطلب المتزايد، وبالتالى يرفع من قدرة الاثرياء والطبقة المتوسطة على دفع الضرائب، مما يوسع القاعدة الضريبة ويزيد الايرادات العامة للدولة ويسهم فى تقليص عجز الميزانية ويسمح للحكومة بالدفع لمزيد من العدالة الاجتماعية ومزيد من الاستثمار فى المستقبل والأجيال القادمة. إن تحقيق العدالة الاجتماعية يتطلب اعادة توزيع الدخول والمال العام والموارد والخدمات العامة بشكل أكثر انصافاً للطبقات الأفقر، ويتطلب إلزام اصحاب رءوس الاموال والطبقات الأكثر ثراء بالقيام بدورهم الاجتماعى وواجبهم تجاه المجتمع وبالأخص فقرائه واجياله القادمة. ان تطبيق العدالة الاجتماعية يجب أن لا يتطلب موارد عامة إضافية ولا يضع اعباء كبيرة على الميزانية العامة للدولة حتى فى المدى القصير، وذلك لأن الأمر يتطلب بالأساس إعادة توزيع دخول واعادة تخصيص ما هو موجود بالفعل، ويجب أن لا يتطلب موارد جديدة الا اذا كانت هناك حاجة لتوفير أموال عامة غير متاحة حالياً لتسريع وتيرة تطبيق العدالة الاجتماعية. ومن الناحية الفنية يمكن تطبيق العدالة الاجتماعية من خلال العديد من أدوات السياسة الاقتصادية كبرامج الحد الأقصى والأدنى للأجور وبرامج التشغيل والتأهيل وبرامج التنمية المكانية والاقليمية والعديد من برامج التحويلات الاجتماعية والتى يمكن أن تمول من زيادة الايرادات العامة من الضرائب التصاعدية أو الضرائب على أرباح رءوس الاموال وتعاملات سوق الاوراق المالية، أو من الموارد العامة مثل البترول والطاقة. ولكن الأمر المحورى هو ان العدالة الاجتماعية ووتيرة تنفيذها هى بالأساس اختيار سياسى يعكس التوازنات الطبقية للنظام الحاكم ومدى ميله نحو الطبقات الأوسع والأفقر فى المجتمع، وهى الطبقات الأقدر على بناء الوطن واستقراره، وهى ايضاً اختيار يعكس رؤية النظام الحاكم لمستقبل الوطن ولنموه وتنميته وللأجيال القادمة. فالعدالة الاجتماعية المدروسة والمخططة تعنى نمواً أسرع واقتصاداً أكبر مع مساوة أفضل وتنمية أكثر عدلاً وشمولاً. إن فى تحقيق العدالة الاجتماعية فائدة للجميع بما فى ذلك الاثرياء حتى وان كانوا لا يفقهون أو لا يريدون أن يفقهوا. هذا المقال يعكس رؤية الكاتب وليس بالضرورة رؤية المنظمة التى يعمل بها. لمزيد من مقالات د. محمود الخفيف