تبدأ أولويات الأمن القومي العربي من البوابة المصرية دائما، ويمتد أثر ما يجري في مصر إلي الدائرة العربية بحكم دورها وموقعها. هذا ما جددت تأكيده ملفات مباحثات الرئيس عبدالفتاح السيسي في عواصم عربية، وآخرها في أبوظبي عاصمة دولة الإمارات العربية المتحدة الشقيقة. ومن هنا نستطيع أن نقول إن زيارة الرئيس أكدت الحاجة الملحة لبناء «كتلة عربية موحدة» إزاء جملة من قضايا الواقع العربي الصعب، وعلي رأسها ما يحدث في سوريا والعراق وليبيا واليمن وتمهد تلك الزيارات المتتالية لأقطار عربية شقيقة السعي المصري الحثيث لإنجاح المؤتمر الاقتصادي لدعم التنمية والاستثمار في مصر والقمة العربية المقبلة التي سوف تستضيفها مصر أيضا في أواخر شهر مارس المقبل، فقد ازدحمت ملفات الرئيس السيسي في دولة الإمارات ما بين علاقات ثنائية في المجالات المختلفة، وعلي رأسها المجال الاقتصادي، ومشاورات حول الوضع الإقليمي وسبل تنسيق الجهود عربيا ودوليا لمكافحة خطر الإرهاب في ظل تداخل واضح بين الملفات الثلاثة، فجميعها يمس بشكل مباشر الأمن القومي العربي. بداية.. جاءت زيارة الرئيس لدولة الإمارات ثرية وغنية سواء ما رأيناه من حفاوة وتقدير لرئيس مصر من جانب قيادات البلد الشقيق أو من حيث احتفاء وسائل الإعلام والشعب الإماراتي بالرجل الذي ساندوه ووقفوا إلي جواره من اللحظة الأولي التي انحاز فيها إلي خيارات الشعب المصري في صيف عام 2013. وفي أبو ظبي، كانت مصر الشقيقة الكبري للعرب حاضرة بقوة في القمة العالمية لمستقبل الطاقة واعتلي رئيسها المنصة ملقيا الكلمة الرئيسية أمام ممثلي 170 دولة تكريما وتقديرا وتأكيدا علي أن مصر لها مكانتها في مستقبل أفضل لشعوب المنطقة وقال الرئيس في عبارات دالة من فوق منبر القمة «جئت لكي أحدثكم عن الحياة... فالطاقة المتجددة تعني الحياة النظيفة الآمنة»، وهو الحضور نفسه الذي أكده الرئيس في الأسبوع نفسه بالمشاركة في الاجتماع السنوي ال 45 للمنتدي الاقتصادي العالمي بمنتجع دافوس السويسري بمشاركة رفيعة المستوى في مناقشات حول الأزمات الدولية وسبل مواجهة الإرهاب ودعوته إلي حلول مبتكرة للمشكلات العالمية عن طريق تبادل الخبرات. فى الحوار الثنائى حول العلاقات المشتركة يأتى الملف الاقتصادى متقدما على غيره فى ظل رغبة اماراتية صادقة للمساهمة فى نجاح المؤتمر الاقتصادى مثلما تخطط له القاهرة، وبرهنت المحادثات فى الملف الأمنى على أن مصر لن تتحمل وحدها عبء مكافحة الإرهاب وأن التعاون الأمنى ومحاصرة تمويل جماعات التطرف والقتل إقليميا ودوليا هدفا واحدا لقيادات البلدين. فى الزيارة الأخيرة، تجسد التحرك المصرى الخليجى نواة لبناء كتلة عربية ضد الإرهاب والتطرف تضم مصر والسعودية والإمارات وتسعى إلى اجتذاب دول أخرى فى مقدمتها الأردن والمغرب والجزائر والسودان وكل دول الخليج وسائر العالم العربى تباعاً لإعادة اللٌحمة العربية. فى الملف الاقتصادى الملح كمدخل رئيسى ركز الرئيس السيسى فى زيارته على تشجيع الاستثمارات الخارجية، وكم كنا سعداء ونحن نسمع من احد رجال الأعمال الإماراتيين قوله إن مصر من أعلى دول العالم فى عوائد الاستثمارات. وأن الحديث عن عقبات أمام الاستثمار فى مصر فيه من المبالغات أكثر من الحقائق.. فمشاكل الاستثمار الأجنبى موجودة فى كل دول العالم, كما كان الرئيس واضحا فى تأكيده على مشروعات توفر فرص عمل للشباب المصرى وخفض معدلات البطالة إلى جانب قرارات مرتقبة للدفع بالشباب النابه واصحاب الكفاءات والقدرات إلى مواقع المسئولية، وذلك ضمن إشارات عديدة عن وضوح رؤية الاصلاح الاقتصادى وإعادة البناء والتنمية. الرؤية الشاملة للعلاقات العربية العربية تمثل حجر الزاوية فى الرؤية المصرية لحاضر ومستقبل المنطقة ولو راجعنا ما قاله الرئيس فى تصريحاته وحواراته الممتدة مع الإعلام المصرى والإماراتى سنجد وحدة الصف العربى عنصرا حاكما فى التحرك الحالى ومن هنا كانت المراجعات الدائرة حول موقف الكتلة العربية السابق الإشارة إليها من الوضع فى سوريا مهمة ومحورية فى التحرك المستقبلى للحفاظ على الدولة ومنع تفتتها بين النظام والفصائل المعارضة. فتقسيم سوريا خط أحمر بالنسبة للأمن القومى المصرى والعربى والقناعة التى بدت لدى بعض دول الخليج أن سوريا وشعبها يدفعون اليوم ثمن المناورات السياسية ومنها الثأر لمقتل رئيس وزرائها رفيق الحريرى فى العقد الماضى. فى مواجهة خطر التفتيت، تظهر الإمارات صاحبة الريادة فى المنطقة فى التعامل مع هذه الجماعة التعامل الصحيح وأصبح لديها الآن خبرات ممتدة فى مواجهة خطر جماعة الإخوان وهى التى تملك فيضا من المعلومات المهمة عن التنظيم وخطورته على المنطقة العربية وليس سراً أن الموقف المتقدم من الجماعة هو الذى دفع دولا خليجية أخرى إلى تبنى موقف الإمارات المتشدد الحالى من الإخوان وتوجيه الشكر لها لمعرفتها من الإمارات بحقيقة جماعة الاخوان ومن ثم الدعم الكامل لثورة المصريين فى 30 يونيو. وفى تفسير موقف هذه الدول، تقول مصادر إماراتية إنها كانت تقدر المخاطر التى تشكلها الجماعة ولكنها لم تصل بالتقييم عن خطورة الإخوان على النحو الذى وصلت إليه اليوم . كما اتفقت رؤى القيادتين المصرية والإماراتية على ضرورة عمل الدول الإسلامية على إبراز الوجه الحضارى للدين الإسلامى من خلال خطوات ضرورية منها: تنقية الخطاب الديني، عدم استغلال المنابر، مراجعة المناهج الدراسية وبرامج التربية، وتمكين المرأة، والتعايش وقبول الآخر، وفى السياق السابق، لا يوجد تهاون خليجى فى ضرورة احترام إرادة الشعب المصرى فى 30 يونيو باعتباره المدخل الصحيح لتصحيح مسار بعض العلاقات الثنائية ومنها علاقات مصر بكل من تركيا وقطر خاصة وأن حكومتى البلدين هما من بدأتا بعدم احترام اختيار المصريين. كما أن القيادة الإماراتية تخشى على مصر مما يجرى فى ليبيا التى صارت مرتعا لجماعات الإرهاب وتعتبرها خنجرا فى ظهر مصر يحتاج إلى وقفة حاسمة، ولذا جاء الاصرار على نجاح المؤتمر الاقتصادى. وفى مواجهة الفكر المتطرف، يؤيد الأشقاء فى دول الخليج كل ما جاء فى خطاب الرئيس السيسى فى مناسبة المولد النبوى الشريف ودعوته الصادقة إلى تنقية الخطاب الدينى من الشوائب وهى الضلع الثانى المكمل لمواجهة الإرهاب حيث تقوم الجماعات المتطرفة بخطف الدين لأهداف سياسية وتفصل ما تشاء من الخطاب الدينى لمصلحة صعودها إلى السلطة وممارسة أساليب قمعية تحت دعوى تطبيق شرع الله أو الاحتكام إلى الشريعة وهى أباطيل نرى أثارها المدمرة لوجه الدين فى سوريا والعراق اليوم. فى سبيل دعم المواقف الراقية والمعبرة عن صحيح الدين، كانت أحاديث أبناء الإمارات معبرة فى اهتمامهم بصدى خطوات غير مسبوقة يقوم بها السيسى فى مواجهة المتطرفين ومنها زيارته للكاتدرائية المرقسية لتهنئة مواطنيه المسيحيين بعيد الميلاد المجيد قبل أسبوعين وهى خطوة تنظر إليها الدول التى يوجد بها تنوع فى المذاهب والطوائف مثل دول الخليج والعراق باعتباره مثالا على ما يجب أن يسود المنطقة العربية من روح المودة والتراحم والوفاق وردا على سياسات اقليمية طائفية, فقد كانت ممارسات إيران والحكومة السابقة فى بغداد تقدم دعما لعصابة داعش وتمنحه مزيدا من الأنصار، بينما ممارسات تركيا تستغل السياسة الإيرانية لإذكاء مشاعر السنة.. فهما يكملان بعضهما البعض فى استمرار الدواعش. وفى سبيل محاصرة الفكر المتطرف، تمنح دولة الإمارات مثلما ترى مصر أيضا أهمية لإقامة حوار مع الغرب بعد أن ثبت لهم أن رهانهم على قوى الإسلام السياسى رهان خاسر وأن المنبع الواحد لتلك الجماعات لا يعرف الاعتدال أو الوسطية بل هى مجرد جماعات إقصائية متطرفة. فى هذا الإطار يمثل الموقف من العلاقات مع إيران أحد الشواغل الدائمة على مائدة الحوار العربى العربي. فمن حيث المبدأ مصلحة الطرفين العربى والإيرانى فى وجود علاقات طيبة لمصلحة الشعوب وحل الخلافات بالحوار والطرق السلمية، لكن المشكلة هى أن الإيرانيين يستغلون الأوضاع الداخلية فى بلدان عربية تعانى من الأزمات الاقتصادية والخلافات الدينية والتنوع الطائفى من أجل إيجاد نفوذ فى أوساط معينة فى بلدان عربية. ويعد البرنامج النووى الإيرانى هاجسا للجميع ليس بسبب امتلاك طهران السلاح النووى ولكن من حيث التدخل فى الشئون الداخلية لدول عربية.. فهذا التدخل أخطر من استحواذ إيران على سلاح نووى لأن تدخلاتها لو تم التهاون بشأنها ستؤدى إلى تفتيت دول بالمنطقة بدون سلاح نووي. أما المفاوضات بين إيران والدول الكبرى حول برنامجها النووى فالخشية هى من إيجاد ثغرات تستغلها دول أخرى وإيران نفسها فى دفع دول بالمنطقة إلى امتلاك السلاح النووى ودخول المنطقة فى سباق خطر على الأمن الإقليمى. على ضوء هذه الخلفية يمكن القول إن خطة دول الخليج والامارات والسعودية تحديدا الآن هى المساعدة في »تمكين مصر« داخليا من الناحيتين الاقتصادية والتنموية كأحد السبل الضرورية لإعادة التوازن فى العالم العربى فى مواجهة التدخلات الخارجية ومؤامرات التفتيت والتقسيم والتفكيك وكذلك فى مواجهة محاولات إعادة إنتاج الفوضى والاضطرابات مثلما تخطط الجماعة الإرهابية وروافدها فى مناسبة الاحتفال بالذكرى الرابعة لثورة 25 يناير فى أسوأ عملية تشويه لثورة فى التاريخ. فى الإمارات أيضا مثلما هو الحال فى سائر الخليج، وكما يؤكد الرئيس أن الحفاظ على الدولة هدف إستراتيجى يرون دعم مصر هدفا إستراتيجيا حيث مصر فى نظر الكل هى «الدولة» بالمعنى الكلاسيكى أو العلمى للتعريف بينما الباقى يشكل موزاييك من الأعراق والطوائف والقبائل القابلة للتقسيم والتمزق بسبب تدخلات إقليمية ودولية تتهدد الدول القائمة.
الإعلام من جديد
خلال رحلة الامارات، لم يفت الرئيس السيسى أن يخاطب ممثلى وسائل الإعلام المصرية المصاحبة له عن دورهم فى المرحلة الجديدة التى تمر بها مصر وحاول أن يحدد لهم ما يريده من الإعلام العام والخاص فى المستقبل فأكد ضرورة أن يقوم الصحفيون والإعلاميون بطرح أسئلة الرأى العام وصولا إلى المعرفة من الناس والخروج بالحقائق من جعبة المسئولين فى الدولة المصرية ولكن يبدو أن بعضهم مازال يعيش فى دور صانع القرار أو الواعظ فى مخالفة واضحة لوظيفة الصحفى أو الإعلامي، فدور الإعلامى ليس صناعة القرار ولكنه ينبغى أن يلتزم بدور ناقل الأخبار ومفسرها للرأى العام وهى الوظيفة الأولى للوسيلة الإعلامية. من وجهة نظر الرئيس أن الإعلام المسئول هو إعلام الحقيقة وقراءة الواقع وهو يرفض سياسات النظم السابقة فى حجب المعلومات عن الناس ويرى أن مصلحة البلاد، وليس مصلحته هو، هى تقديم المعلومات والحقائق دون نقصان من أجل تشكيل الوعى العام بشكل أفضل ودون أن ينزلق الاعلامى فى هاوية نشر الجهل والتحريض المستتر وتشويه سمعة الناس واستسهال اصدار الاحكام دون إلمام بكل عناصر المشكلة أو القضية المطروحة. دعوة السيسى لم تصل إلى البعض ويصرون على استمرار حالة الرخص الاعلامى غير المسئول مما يقلل من ثقة الرأى العام فيما يقرأه أو فيما يشاهده.. فمتى نفيق إلى رسالة إعلامية مهنية ناضجة؟! لمزيد من مقالات محمد عبد الهادى علام