لجنة القيادات بجامعة بنها الأهلية تستقبل المرشحين لرئاسة الجامعة ونوابها    «الرقابة المالية» تقرر تعديل آلية التعامل على الأسهم في ذات الجلسة    تعرف علي أسعار السلع الأساسية اليوم الخميس 23 مايو 2024    التعليم ترد على أسئلة طلاب الثانوية العامة.. صور    ضبط 34 قضية سلاح و6 قضايا إتجار بالمخدرات في أسيوط    الأزهر للفتوى يوضح فضل حج بيت الله الحرام    «عاشور» يشارك في المنتدى العالمي للتعليم بلندن بحضور 122 من وزراء الدول    بمشاركة زعماء وقادة.. ملايين الإيرانيين يلقون نظرة الوداع على رئيسي (فيديو)    «قانونية مستقبل وطن» ترد على CNN: مصر ستواصل دعم القضية الفلسطينية    بعد الاعتراف بفلسطين.. الاحتلال الإسرائيلي يوجه رسالة توبيخ للنرويج وأيرلندا وإسبانيا    هيئة البث الإسرائيلية: حكومة الحرب ستدعم مقترحا جديدا لمفاوضات غزة    ميكالي: حلم الميدالية الأولمبية مع منتخب مصر يراودني    رومارينهو يودع جماهير اتحاد جدة في التشكيلة المتوقعة لمواجهة ضمك    غيابات بالجملة في قائمة الأهلي قبل مواجهة الترجي    وصول جثمان شقيق هاني أبوريدة إلى جامع السلطان حسين بمصر الجديدة "صور"    اعرف جدول المراجعات المجانية للثانوية العامة في الفيوم    وزير الدفاع: مصر تقوم بدور مهم وفعال لمساندة القضية الفلسطينية على مدار التاريخ    النيابة تطلب التحريات حول دهس سائق لشخصين في النزهة    تجديد حبس سائق ميكروباص معدية أبو غالب وعاملين بتهمة قتل 17 فتاة بالخطأ    مواعيد قطارات السكك الحديدية على خط «السد العالي - القاهرة»    تزامنا مع رفعها.. كيف كانت تُكسى الكعبة المشرفة قبل الإسلام؟    اليوم.. كاظم الساهر يحيي حفلا غنائيا في دبي    أول تعليق من مي سليم بعد إصابتها في حادث سير: «كنت هموت»    أميرة هاني تكشف سابقة تعرضت لها من سائق «أوبر»    بعد الأحداث الأخيرة.. وزارة الهجرة تطلق رابط تسجيل للطلاب المصريين في قيرغيزستان    هل يجوز شرعا التضحية بالطيور.. دار الإفتاء تجيب    مستشار الرئيس للصحة: مصر تمتلك مراكز لتجميع البلازما بمواصفات عالمية    «حياة كريمة» تطلق قوافل طبية مجانية في الشرقية والمنيا    «صحة المنيا»: تقديم الخدمات العلاجية ل7 آلاف مواطن خلال شهر    إصابة طفلين فلسطينيين برصاص الاحتلال شرق مدينة قلقيلية    توريد 197 ألف طن قمح إلى شون وصوامع كفر الشيخ منذ بداية الموسم    تعليم القاهرة تعلن تفاصيل التقديم لرياض الأطفال والصف الأول الأبتدائي للعام الدراسي المقبل    وزير الري يلتقي مدير عام اليونسكو على هامش فعاليات المنتدى العالمي العاشر للمياه    النائب محمد المنزلاوي: دعم الحكومة الصناعات الغذائية يضاعف صادراتها عالميا    "شوف جمال بلدك".. النقل تعلن تركيب قضبان الخط الأول للقطار السريع - فيديو    صباح الكورة.. صدمة في الزمالك ودور ممدوح عباس في الأزمة الكبرى.. لبيب يكشف موقفه من ضم حجازي والشناوي يتدخل لحل أزمة نجم الأهلي وحسام حسن    مسلسل البيت بيتي 2.. هل تشير نهاية الحلقات لتحضير جزء ثالث؟    عضو مجلس الزمالك: نعمل على حل أزمة بوطيب قبل انتقالات الصيف    في الجول يكشف تفاصيل إصابة عبد المنعم وهاني بتدريبات الأهلي قبل مواجهة الترجي    رجل متزوج يحب سيدة آخري متزوجة.. وأمين الفتوى ينصح    23 مايو 2024.. ارتفاع جماعي لمؤشرات البورصة المصرية في بداية التعاملات    استطلاع: 70% من الإسرائيليين يؤيدون انتخابات برلمانية مبكرة    غدًا.. "العدل الدولية" تصدر حكمها بشأن قضية الإبادة الجماعية ضد إسرائيل    الرعاية الصحية تعلن نجاح اعتماد مستشفيي طابا وسانت كاترين يجنوب سيناء طبقا للمعايير القومية المعترف بها دوليا    آخر موعد للتقديم في مسابقة التربية والتعليم 2024 (الرابط والتفاصيل)    «المنيا» ضمن أفضل الجامعات في تصنيف «التايمز العالمي» للجامعات الناشئة 2024    «الصحة»: المرأة الحامل أكثر عرضة للإصابة بفيروس نقص المناعة البشري HIV    رئيس جهاز مدينة 15مايو يتفقد المشروعات الجارية.. ويجتمع بمسئولي الجهاز    مطران الكنيسة اللاتينية بمصر يحتفل بعيد القديسة ريتا في الإسكندرية    أول تعليق من دانا حمدان على حادث شقيقتها مي سليم.. ماذا قالت؟    نشرة مرور "الفجر ".. انتظام حركة المرور بميادين القاهرة والجيزة    اليوم.. النقض تنظر طعن المتهمين بقضية ولاية السودان    ل برج الجوزاء والميزان والدلو.. مفارقة كوكبية تؤثر على حظ الأبراج الهوائية في هذا التوقيت    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الخميس 23-5-2024    أمين الفتوى ينفعل على زوج يحب سيدة متزوجة: ارتكب أكثر من ذنب    استشهاد 8 فلسطينيين جراء قصف إسرائيلي على وسط غزة    «دول شاهدين».. «تريزيجيه» يكشف سبب رفضه طلب «أبوتريكة»    محلل سياسي فلسطيني: إسرائيل لن تفلح في إضعاف الدور المصري بحملاتها    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



من يوميات رحلةاسبانية
لحظةالجقيقة
نشر في الأهرام اليومي يوم 22 - 01 - 2015

قالت صديقتى الاسبانية إيزابيلا: «سآخذك اليوم الى «الكوريدا». قلت: «إلا مصارعة الثيران هذه، فلنذهب الى اى مكان آخر». قالت: «ألا تريد أن ترى اسبانيا؟» قلت: «طبعا. فلنذهب الى «بويرتا ديل صول» حيث ملتقى شباب المدينة، أو الى متحف «البرادو» بمجموعته الفنية الفريدة، أو الى كاتدرائية «المودينا» التاريخية، فأنا ضد كل أنواع العنف».
كنا قد شاركنا سويا فى الصباح فى مظاهرة ضخمة بميدان «بلاسا مايور» بقلب مدريد ضد مذبحة الفلسطينيين فى غزة، وحملنا مع مجموعة من اصدقاء إيزابيلا اللافتات التى تندد بالضربات الوحشية التى دأبت قوات الاحتلال الاسرائيلي على توجيهها للمدنيين الفلسطينيين العزل، ثم بعد انتهاء المظاهرة استرحنا فى أحد المقاهي القريبة من الميدان.
قالت: «إننا على الأقل نقتل الثور ولا نواصل تعذيبه عشرات السنين كما يحدث للفلسطينيين». قلت: «إن منظر الحيوان والحراب مرشوقة فى جسده الى أن يسقط ميتا سيكون مزعجا للغاية. دعينا نتمشى اليوم فى المدينة القديمة ثم نسافر غداً الى منطقة الأندلس ونزور قصر الحمراء فى غرناطة».
قالت: «بالطبع يمكنا ان نزور غرناطة، ويمكنى أيضا أن آخذك الى أستورياس الجميلة التى هى مسقط رأسى فى شمال غرب البلاد، لكن طالما نحن اليوم فى مدريد فيجب أن تشاهد «الكوريدا»، وإلا فلن يصدق أحد فى مصر أنك زرت اسبانيا». قلت: «لا أحب مشاهدة الدم والقتل؟» ابتسمت ورفعت حاجبها الأيسر وهى تقول: «لا تمثل على دور المثقف المرهف الحس، لقد رأيت عندكم الكثير من مشاهد القسوة على الحيوانات». قلت: «هى بلا شك حوادث فردية وليست عروضا جماعية يستمتع بها الجمهور ويشترى التذاكر لمشاهدتها». قالت: «هل تعلم كم تدر مصارعة الثيران فى مختلف مدن اسبانياعلى خزينة الدولة؟» ودون أن تنتظر منى إجابة قالت: «2٫5مليار جنيه إسترليني، أى بحسابكم نحو 30 مليار جنيه مصري. أؤكد لك أن حكومتكم لو علمت بذلك لأقامت حلبات المصارعة فى كل مكان، فانته بسرعة من قهوتك وهيا بنا حتى لا نتأخر».
وفى طريقنا الى حلبة المصارعة الكبيرة «بلاسا توروس لاس فينتاس» والتى تعتبر مركز مصارعة الثيران فى العالم وتسع مدرجاتها ل25 الف متفرج، شرحت لى إيزابيللا أن «الماتادور» الذى سيصارع الثور اليوم هو سباستيان كاستيللا (وتنطق كاستييا)، وهو من أشهر المصارعين المعروفين دوليا حيث يتنقل طوال موسم المصارعة بين الحلبات الدولية من فرنسا والبرتغال الى المكسيك وفنزويلا.
اتجهنا شمالا الى حى «سالامانكا» فطالعتنا البوابة الضخمة للحلبة ذات الطراز المعماري القديم الذى انتشر فى القرن الثانى عشر بعد الفتح الإسلامى لاسبانيا، رغم ان الحلبة بنيت بعد ذلك بمئات السنين ولم تفتتح إلا عام 1932. كانت مشكلتنا الكبرى هى الحصول على تذكرتى دخول للعرض، فهذا هو موعد المهرجان السنوي للمصارعة المعروف باسم «فييستا سان إزيدرو» الذى يستمر لمدة ثلاثة أسابيع فقط ما بين شهرى مايو ويونيو، لذا فلن نحصل على تذاكر إلا فى السوق السوداء حسبما نجدها، ونحن وحظنا، فهناك أماكن فى الجانب المشمس وأخرى فى الظل، وقد تمكنت إيزابيللا بكثير من النقاش والفصال من أن تأتى لنا بتذكرتين لكن فى الشمس، وبسعر كان يكفى لقضاء يوم إضافى فى أسبانيا.
بمجرد أن أخذنا مقاعدنا انطلقت الموسيقى النحاسية تصدح فى جميع أرجاء الحلبة، وكانما كانوا ينتظرون حضورنا ليعلنوا على إيقاع «الباسو دوبلى» الاسباني الخلاب بداية العرض، كانت الشمس قوية رغم أنها كانت فى النزع الأخير قبل أن يحل المغيب. دخل فريق المصارعين «التوريرو» بملابسهم المزركشة وخطواتهم الرشيقة وكأنهم فى عرض أزياء فنى وليس فى حلبة يحوم فوقها طائر الموت الأسود الكبير فى انتظار ما سيفوز به من أرواح سواء للثيران أو للمصارعين.
ما هى إلا دقائق حتى اتخذ كل منهم مكانه وفتح باب الغرفة المظلمة التى يقبع فيها الثور فانطلق كتلة سوداء هائجة تبحث عن فريسة تفتك بها. أخذ كل من المصارعين يشاغل الثور بعباءة كبيرة وردية اللون فى جانب منها وصفراء فى الجانب الآخر، فيسرع الثور الهائج لينطح العباءة التى تمر من فوق جسده ملساء لا قوام لها بينما تتعالى صيحات الجمهور: «أوليه!» المرة تلو الأخرى والثور لا يهدأ ولا يمل من تكرار المحاولة.
وبدأت اللعبة تستحوذ على اهتمامى رغما عنى، ولا شك أن صيحات الجمهور المحيط بنا أسهم فى أن يندمج الجميع فى اللعبة، فمع كل صيحة «أوليه!» التى هى فى الأصل كما هو معروف، صيحة الاستحسان العربية «الله!» كنت اتطلع للمرة التالية التى ينطلق فيها الثور لينطح ذلك الرداء الأجوف الذى يهزه «التوريرو» أمامه.
بعد عدة جولات مماثلة دخل الى الساحة من يطلق عليهم «البيكادور» يمتطون الخيول ليغزوا الرماح فى ظهر الثور، وبصحبتهم حاملو الأعلام الذين يسمون «الباندريلليرو» وهؤلاء يدخلون على أقدامهم ويغرسون الأعلام خلف رأس الثور. فكان كل «باندريلليرو» منهم يحمل رمحين يغرسهما معا.
ثم حان دخول «الماتادور»، تلك اللحظة التى كان ينتظرها 25 ألفا من المتفرجين امتلأ بهم المدرج عن آخره. ارتفعت الموسيقى واكتسبت طابع الجلال وهى تعلن دخول المصارع الشاب سباستيان كاستييا بردائه المزركش بخيوط الذهب المحظورة على باقى «التوريرو»، والذى بدا كراقص الباليه فى خطواته الرشيقة، وكبطل رياضى فى تمكنه من حركاته. خلع قبعته السوداء ورفع بها يده دائرا على صفوف المدرج الكبير ثم قذف بها الى سيدة كانت تجلس فى الجانب المظلل من المدرج، مما يعنى أنه يهب لها هذا الثور، فصاح الرجال فى المدرج وشهقت النساء، واستدار هو كى يلاقى الوحش الأسود الذى كان ينتظره فى الحلبة.
مشى كاستييا بخطى ثابتة الى حيث كان يقف الثور ساكنا يلهث منتظرا إشارة البدء من المصارع. لوح له سباستيان بعباءته التى كانت حمراء قانية فى لون الدم فانطلق الثور على الفور متصورا أنه وجد أخيرا الهدف الذى ظل يراوغه منذ بداية دخوله الحلبة، ومال سباستيان بنصفه العلوى الى الوراء متفاديا الثور، ثم الى الأمام، وكأنه يرقص على موسيقى «الباسو دوبلى» بينما علت صيحات الجمهور: «أوليه!»
نظرت الى السيدة التى وهبها الرجل الثور فوجدتها مازالت قابضة على القبعة الى صدرها وكأنها تخشى أن يخطفها منها أحد. كانت فى نهاية الثلاثينيات من عمرها، على قدر كبير من الجمال، ترتدى فستانا اخضر فى لون النبات اليانع الذى لم يكن له وجود فى هذه الحلبة الرملية الصفراء. مالت على الرجل الذى كان يجلس الى جوارها لتهمس له بشيء، فلمحته لأول مرة. يا إلهى! إنه يوسف إدريس! فركت عينى ونظرت مليا. ضحك الرجل لما قالته السيدة. إنها ضحكة يوسف إدريس. هل هذا معقول؟! صحيح يخلق من الشبه أربعين، لكن الشبه عادة لا يكون مطابقا مائة بالمائة، فإذا ضحك الشخص أو استدار أو مال برأسه بدأت تظهر الفروق واضحة جلية، فشكل الإنسان ليس فقط ما يرثه من ملامح، إنه أيضا حصيلة التجارب التى تمر به فتترك علاماتها على وجهه، وتحفر ندباتها النفسية التى تختلف من شخص الى آخر.
كان يوسف إدريس يجلس فى الظل وعلى عينيه نظارة سوداء، بينما كانت أشعة الشمس تضرب فى عينى وتحد من رؤيتى للجانب الآخر من المدرج، لكن ملامحه كانت واضحة أمامى. ذلك الوجه المربع الذى يشع بالثقة فى النفس، وذلك الشعر الفضى الذى يعلو رأسه كالتاج.
علت صيحات الجمهور لسبب لم اتبينه، فوقفت السيدة الخضراء فجأة ووقف معها يوسف إدريس بعد أن خلع نظارته الشمسية ومد رأسه ينظر فى اتجاه الحلبة أسفل المقاعد. هو بالفعل يوسف إدريس، هذه هى تقطيبة عينيه، وهذا هو جسده الممتلئ قليلا. لا، لا يمكن أن يكون شبيها له. إنه يوسف إدريس.
نظرت الى الحلبة فوجدتهم يخرجون منها أحد الشباب بينما هو يقاومهم بشدة. قلت لإيزابيللا: «ماذا حدث؟» قالت: «لقد نزل هذا الشاب الى الحلبة يريد مصارعة الثور». قلت: «يا إلهى! أهو مجنون؟» قالت: «لا، هو فقط متحمس للعبة». ثم أضافت: «إن هذا يحدث طوال الوقت، وأحد أشهر مصارعينا وهو إل كوردوبس الذى كان يتقاضى أعلى أجر فى تاريخ مصارعة الثيران، بدأ حياته باقتحام حلبات المصارعة مثل هذا الشاب».
لاحظت إيزابيللا انشغالى عن اللعبة فقالت: «ما الذى يشغلك؟» قلت: «ذلك الرجل الذى يجلس هناك بجوار السيدة التى قذف لها «الماتادور» بقبعته». قالت دون أن تحول عينيها عن الحلبة: «ما له؟» قلت: «إنه يشبه أحد الكتاب المصريين بشكل غريب». قالت: «قد يكون هو». قلت: «لكنه مات عام 1991».
«أوليه!» صاحت الجماهير، فقد جثى سباستيان على ركبتيه وأخذ يصارع الثور من هذا الوضع المقيد لحركته وسط صياح الجماهير، ثم هب واقفا بعد قليل ليحيى الجمهور الذى انفجر بالتصفيق، ثم مضى الى جانب آخر من الحلبة مقتادا معه الثور بالعباءة الحمراء القانية ليبدأ بعد ذلك عرضا آخر تثنى فيه بجسده وتلوى وهو يتفادى نطحات الثور الهائج، وبعد عدة جولات مماثلة كانت تنتهى كلها بصيحات الجمهور وتصفيقه، تناول المصارع سيفه المسلول من أحد معاونيه معلنا بذلك الجولة الأخيرة فى المصارعة، فوضع السيف خلف عباءته الحمراء التى أخذ يشاغل بها الثور مرة أخرى لافا به كل أرجاء الحلبة بينما الثور يواصل نطح العباءة بلا جدوى.
ثم حانت لحظة الحقيقة فسكنت الموسيقى، وحبس جميع الحضور انفاسهم، وصوب المصارع السيف الى الثور، ونادى عليه ان يتقدم الى العباءة التى أمسك بها فى يد وأمسك بالسيف فى اليد الأخرى، فإما أن يصرع الثور أو الثور يصرعه.
اندفع الثور بكل قوته نحو العباءة فغرس المصارع السيف رأسيا بين كتفيه. غاص السيف بالكامل داخل جسد الثور ولم يعد يظهر منه إلا مقبضه. توقف الثور فى مكانه بلا حراك، وما هى الا ثوان وانقلب الى الأمام بثقل رأسه التى لم يعد يقوى على حملها فتكعور صريعا على الأرض.
صدحت الموسيقى ودار نجم «الكوريدا» الشاب رافعا يده اليمنى الى اعلى يحيى الجماهير وسط تصفيق حاد اكتنف جميع أرجاء الحلبة كالعاصفة الهوجاء، ومن ورائه تم ربط الثور من قرنيه ثم جاءت الخيول فسحبت الجثة السوداء الى خارج الحلبة وهو مازال يحيى الجماهير، الى أن أحضروا له أذنى الثور كما هى العادة، فأخذ كل منهما فى يد ورفعهما وهو يطوف أرجاء الحلبة ثم يتوقف حيث جلست السيدة الخضراء التى رفعت له قبعته السوداء لترد التحية.
بعد انتهاء العرض تدافعنا جميعا للخروج من الحلبة، ووسط الزحام فقدت إزابيللا، أخذت أنظر يميناً ويسارا. كان الظلام قد حل، لكنى فجأة وجدت نفسى وجها لوجه أمام يوسف إدريس. ابتسمت له رغما عنى فتعرف علىّ على الفور وقال بصوته العالى: «أهلا! حمدا لله على السلامة! لم أكن أعرف انك هنا»، وعرفنى بالسيدة الخضراء قائلا إن اسمها ماريا أليخاندرا، وبرجل مصرى كان معه قال إن اسمه عوض، وقال إنهما صديقاه وأنه قابلهما هنا بالصدفة. قلت: «إذن فقد تقابلنا كلنا بالصدفة». ردت ماريا أليخاندرا: «كما يتقابل الناس جميعا فى الحياة».
فى تلك الأثناء كانت إيزابيللا قد وجدتني فعرفتها بهم. ثم قال يوسف إدريس: «إننا سنذهب الآن الى أحد المطاعم حيث سيجيئنا هناك سباستيان كاستييا. إنه صديق ماريا اليخندرا، لماذا لا تجيئوا معنا؟». وكأننا قد قبلنا الدعوة قال: «فلنلتق جميعا فى المطعم إذن». سألت إزابيللا إن كانت تعرف هذا المطعم، فقالت أن لا أحد فى مدريد لا يعرفه.
فى الطريق قالت لى إيزابيللا إن هذا المطعم واسمه «بوتين» هو اقدم مطعم فى العالم إذ يعود تاريخه الى عام 1725، وقد قال عنه الكاتب الأمريكى الشهير إرنست همجواى، أنه أحسن مطعم فى العالم. كانت الساعة قد تعدت العاشرة مساء لكن المدينة كانت تموج بالحركة والنشاط، وتذكرت كتاب همنجواى «الموت بعد الظهر» الذى قال فيه: «لا أحد فى مدريد يأوى الى فراشه قبل أن يجهز على (يقتل) الليل».
وصلنا الى المطعم العتيق الذى اتسم أثاثه بطراز القرن الثامن عشر وسقفه تحمله براطيم خشبية داكنة، بمجرد دخولى حضر الى ذهنى وصف همنجواى للمكان وأدركت أنه المكان الذى وقعت في أحداث المشهد الأخير من روايته «الشمس تشرق أيضا». كان الأصدقاء الثلاثة فى انتظارنا على طاولة تتسع لستة أشخاص، فجلسنا وطلبنا بعض المشروبات فى انتظار حضور «الماتادور» الشهير. وقال يوسف إدريس إنه مهتم بمصارعة الثيران فقلت له: «أعلم ذلك، فروايتك «رجال وثيران» التى نشرتها عام 1964 تدور بكاملها حول مصارعة الثيران، لكنك مثلى كنت ضد القسوة التى تقوم عليها اللعبة». قال: «إنى لم أكتب الرواية بعد، وزيارتى هذه لأسبانيا هى للتعرف على خبايا هذه اللعبة التى خلبت ألباب البشر جيلا بعد جيل». ثم قال: «لقد حضرت منذ أيام عرضا شيقا لمصارع اسمه أنطونيو أصيب فى نهاية العرض إصابة خطيرة ونقل الى المستشفى، وذهبت بنفسى لزيارته فوجدته بين الحياة والموت». صمت لحظة ثم قال: «لقد هزتنى هذه التجربة بشكل عنيف».
عجبت لحديث يوسف إدريس، فما حكاه لى هو بالضبط أحداث روايته التى قرأتها منذ نحو 25 سنة. قال: «لقداكتملت الآن أحداث الرواية فى ذهنى لكنى كنت أبحث لها عن عنوان. هل سمعتك تقول «رجال وثيران»؟ إنه عنوان جيد. هكذا سأسميها».
قالت إزابيللا: «لقد قرأت عن حادثة أنطونيو فى الصحف. للأسف هذا هو المصير المحتمل لكل من يمارس هذه اللعبة، فالثور الذى يصرعه الماتادور يمكن أن يصرع هو الماتادور، والنتيجة لا تكون معروفة مسبقا مهما نكن براعة المصارع»، ردت ماريا أليخاندرا: «هذا جزء من سحر اللعبة». ثم قالت: «إن أكبر ماتادور فى تاريخ اسبانيا وهو مانوليتى، لقى مصرعه فى الحلبة عام 1947 بعد أن صرع فى نفس اليوم خمسة ثيران». قالت إزابيللا: «نعم، لقد حزنت عليه البلاد حزنا شديدا وأمر الجنرال فرانكو وقتها بثلاثة أيام من الحداد العام فى جميع أنحاء البلاد».
قلت: «الحقيقة أن حظ الثور من العذاب هو الأكبر، والبرتغاليون يقولون إنهم أكثر رحمة منكم هنا فى اسبانيا لأنهم فى المصارعة عندهم لا يقتلون الثور». فقالت ماريا أليخندرا ساخرة: «نعم هم يعذبونه فقط دون ان ينهون عذابه».
نظرت الى كل من إيزابيللا وماريا أليخاندرا اللتين جلستا متجاورتين فوجدتهما مختلفتين اختلاف الليل عن النهار. كانت ماريا اليخندرا فى فستانها الأخضر الأنيق المتهدل على جسدها كالرداء الروماني تبدو كالآلهة القدامى. كانت طويلة القوام ممتلئة الجسم كالشجرة الباسقة التى تفتحت كل أغصانها بأوراق خضراء يانعة، بينما بدت إيزابيللا الى جوارها بالبنطلون الجينز والفانلة البيضاء وجسدها النحيل كالطالبة المدرسية التى لم تتفتح أنوثتها بعد.
قلت: «لقد سمعت أن اللعبة لقسوتها أصبح الآن ممنوعا حضورها لمن هم أقل من 14 سنة». قالت إزابيللا: «لقد كان رئيس الوزراء ثاباتيرو هو الذى أصدر هذا القانون منذ بضع سنوات فقط». فردت ماريا أليخندرا وقد وضعت إبهامها على فمها: «لكنا لن ننبث بكلمة أخرى حول قسوة اللعبة، فها هو قد وصل الآن أحد أهم أبطالها».

فجأة شهد المطعم هرجا ومرجا. هب زبائن المطعم من على مقاعدهم وتسابقوا للوصول الى المدخل حيث أحاطوا بسباستيان كاستييا يتحدثون إليه أو يطلبون توقيعه ويلتقطون الصور معه، ولولا تلك الضجة ما أدركت أن ذلك الشاب الوسيم الذى دخل لتوه هو نفسه ذلك المصارع الذى شاهدته منذ لحظات يقتل الثور فى الحلبة. أحسست أننى أراه لأول مرة فقد كان بعيدا فى حلبة المصارعة لم أستطع تبين ملامحه جيدا. بعد دقائق استطاع أن يخترق المحيطين به ويصل إلينا، فأشارت إليه ماريا أليخاندرا أن يجلس فى وسط الطاولة.
كان شابا غاية فى الوسامة ، رفيع القامة يذكرك بالممثل الفرنسى آلان ديلون. حين قلت ذلك لإزابيللا قالت لى إنه ولد وتربى فى فرنسا بالفعل ولكن لأب اسبانى لا يفيق من السكر وأم بولندية لا تربطه بها أى علاقة. علمت أنه تخطى الثلاثين عاما لكنه كان يبدو فى العشرينيات. عرفته ماريا أليخاندرا بنا وقالت: «لدينا كاتبان مصريان معجبان بادائك ويريد كل منهما أن يكتب عن مصارعة الثيران، فهى غير معروفة فى مصر». قال: «وما هى المصارعة التى عندكم؟ إن الكثير من الشعوب لديها نوع من المصارعة التى تستخدم فيها الحيوانات، وأشهرها بالطبع مصارعة الديوك». ردت ماريا أليخندرا: «وأشرسها أيضا». قال سباستيان: «صحيح، لكن هناك أيضا مصارعة الكلاب والخيل، بل إنى سمعت عن مصارعة تجرى فى الشرق الأقصى بين الجراد الذى تتم تربيته بطريقة معينة تضمن شراسته». فضحكنا جميعا. قال: «هناك أيضا مصارعة الجمال، أليست لديكم فى مصر هذه المصارعة؟».
بدت السعادة على ماريا أليخاندرا وهى تنظر اليه كالأم التى تنظر لطفلها وهو يسمع جدول الضرب أمام ضيوفها. كانت تربطها بالمصارع الشاب علاقة قوية حيث كانت ترعاه فى بداية حياته، وهى كما علمت على قدر من الثراء، كوبية الأصل تعيش فى الولايات المتحدة منذ أن قام فيدل كاسترو بتأميم مزارع التبغ التى كان والدها يملكها فى كوبا. قالت: «من أين لك بكل هذه المعلومات؟» قال فى بساطة تتفق مع ملامح وجهه الطفولية البريئة: «أنا غير متعلم كما تعلمين، ولم أكمل سنوات الدراسة بالمدرسة، كل معلوماتى فى الحياة من الرجل الذى هربت اليه هنا فى أسبانيا حين تركت منزلنا فى فرنسا». ثم نظر إلينا وهو يقول: «لقد كان مصارع ثيران، وهو الذى صنع منى مصارعا. أنا مدين له بكل شيء فى حياتى بما فى ذلك هذه المعلومات».
كانت كل الأنظار تتجه الى طاولتنا وتتركز بالطبع على النجم الذى كان يتوسطنا. سأله يوسف إدريس: «فيم تفكر وانت تصوب سيفك الى الثور ثم تطعنه الطعنة القاتلة؟» قال: «أفكر فى أننى لا يجب أن أخذل الجمهور». فسأله: «ألا تفكر فيما يمكن أن يفعله بك الثور، وفى أنه يمكن أن ينتصر عليك؟» قال: «لقد فعلت بى الثيران الكثير، لكن لم يحدث أن انتصر على أى منها». ثم تدارك بسرعة: «حتى الآن». ثم ضحك وهو يقول: «لقد حدث ذات مرة أن جردنى أحد الثيران من ملابسى وظهرت صورى فى الصحف فى اليوم التالى وأنا فى الحلبة ونصفى الأسفل عار تماماً». ضحكنا جميعا وسألته: «كيف تأتى للثور أن يفعل ذلك؟» قال: «إن له قرونا كما تعلم مدببة وحادة كالسكين، وقد مر قرنه من داخل الملابس وشرطها من أسفل فصرت عاريا كما ولدتنى أمى». قلت: «ياللفضيحة!» قال ضاحكا: «لم تكن فضيحة على الإطلاق، فقد حبانى الرب بما أفخر به أمام الناس». فانفجرنا جميعا فى الضحك وأخذ زبائن المطعم يتطلعون إلينا.
جاء النادل يقول إن هذا المطعم متخصص فى تقديم الحملان الرضع والخنازير الرضع، فقلت له إننى نباتى وطلبت منه سلاطة طازجة، ثم جلست أتأمل هذا المخلوق دقيق الملامح وصغير البنيان الجالس أمامى والذى قتل العشرات من الوحوش السوداء، وكل ما استطاعت ان تفعله به هو ان شرطت بنطلونه. أخذت أنظر إلى وجهه الجميل والى شعره الأسود الفاحم وأقول لنفسى: كيف تأتى لهذا المخلوق الرقيق أن يصارع الثيران ويصرعها. سأله عوض فجاة، والذى لم يكن قد تكلم من بداية لقائنا: «هل انت متدين؟» قال على الفور: «جداً. فنوع الحياة التى نحياها تدفعنا لأن نكون فى حماية القوة الإلهية لأنها وحدها القادرة على الحفاظ على أرواحنا وسط المخاطر التى نتعرض لها».
قلت له: «ما هى علاقتك بالثور؟ هل هى علاقة عداء وكراهية؟» قال: «بالطبع لا. إن الثور جزء من حياتى ودونه لا حياة لى. هى علاقة مركبة، وقد لا تصدقني إذا قلت لك إنها فى جانب منها علاقة عاطفة وتواصل، فالمصارع الذى يدخل الحلبة ليقتل الثور فقط هو جزار وليس مصارعا». قلت: «لكنك تقتله أيضا». قال: «كما يقتل الراهب القربان، دون عداء ولا كراهية، وإنما إرضاء لقوة أكبر وهى فى حالتى الجمهور». صمتنا جميعا فعاد يقول: «صدقنى، لابد ان تكون هناك علاقة قوية بين المصارع والثور». ثم قال: «لقد اشتهر مصارعنا العظيم إل كوردوبس بأنه كان يقبل الثور بين قرنيه. ولم تكن تلك حركة مسرحية يلفت بها الأنظار، وإنما كانت تعبيرا صادقا عن تقديره لذلك المخلوق الشجاع الذى لا يهرب أبدا من الميدان وإنما يظل يقاتل بلا كلل حتى وهو ينزف دما، الى ان يسقط صريعا للبسالة والعزيمة والمثابرة. لكن ذلك كله حكر على الحلبة وحدها، فَلَو قابل أى منا ثورا هائجا خارج الحلبة لسعى على الفور لقتله». ثم قال: «إن ل «الكوريدا» قوانينها الخاصة التى تَخَلَّق علاقة قوية بين الأضاد وليس فقط بين المصارع والثور».
قال يوسف إدريس: «إن «الكوريدا» فى حقيقة الأمر هى منطقة وسطى بين أكبر ضدين وهما الحياة والموت. تلك المنطقة التى تعيش فيها الحياة جنبا الى جنب مع الموت، يتصارعان كما يتصارع «الماتادور» و»التورو». المنطقة التى تتقابل فيها الحياة مع الموت دون أن يعرف أحد من الذى على قيد الحياة ومن الذى فى عالم الأموات». قالت ماريا اليخندرا: «أليس هذا هو الحال بعيدا عن «الكوريدا» أيضا، حيث يلازم الموت الحياة؟» فرد: «نعم ولكن قيمة «الكوريدا» أنها تذكرنا بذلك، تقول للأغبياء منا الذين لا يعرفون، أن الأحياء والأموات يعيشون معا فى عالم واحد».
نظر المصارع الشاب مبهورا الى يوسف إدريس وقال: «هذا صحيح. إنى أرى فيك أستاذى الذى مات منذ سنتين. بالفعل أنا أشاهد الموت كل يوم داخل الحلبة. أراه وهو يحوم فى السماء من قبل أن تبدأ «الكوريدا»، ثم أراه وهو ينقض علينا فى النهاية، دون أن أعرف إن كان سيقبض على روح الثور أم على روحى أنا. ففى تلك اللحظة نكون أنا والثور متساويين تماماً، نعيش معا فى تلك المنطقة الوسطى التى تتحدث عنها والتى تقع ما بين الحياة والموت.
قال يوسف إدريس: «هى لحظة الحقيقة لأنها لحظة الموت والحياة معا. اللحظة التى تتداخل فيها الأزمنة وتتلاشى الفوارق بين الماضي والحاضر والمستقبل».
كان يوما حافلا انتهى فى أحضان إزابيللا التى ما ان خلعت بنطلون الجينز الذى كانت ترتديه والحذاء الرياضى الأبيض، حتى تبدت تلك المخلوقة الأسطورية الرقيقة..«خانا» الجميلة راعية العشاق فى الأساطير القديمة لإقليم أستورياس، صغيرة الحجم، ذات الشعر الفاتح اللون، المغزول من أشعة الشمس والقمر، والتى لا تعيش إلا بالقرب من المياه الرقراقة.
احتضنتنى «خانا» بذراعيها الرقيقتين وقبلتنى فدخلنا عالم الأساطير القديمة. أساطير الحب والجمال التى عاشت عليها أجيال متعاقبة من البشر. تحولت أمامى الى الرمز الأبدي للأنوثة حين تجيء رقيقة فى عذوبة اللحن الحالم. احتوتنى بكيانها فشعرت بنفسى أغوص فى بحيرة الحب المسحورة ذات المياه الدافئة فى عالم ما بعد الحياة والموت.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.