لا تغيب عن أدبيات الحركات الإسلامية والجماعات المتطرفة اجتهادات قدامى الفقهاء والمفسرين حول ما ورد فى الآيات القرآنية والأحاديث النبوية عن تغيير المنكر باليد. وتعد تلك الاجتهادات والفتاوى التى تنسب فى كثير من الأحيان الى « ابن تيمية» هى القاسم المشترك لدى جماعات العنف والإرهاب. ولكنها قد تؤجل لدى البعض لتأتى فى مرتبة أدنى من جماعة أخرى تعتبره منهجا وأصلا من أصول الإسلام وإقامة الدين. من هنا لا تتوقف حوادث القتل وقطع الرءوس تحت دعوى تغيير المنكر باليد واقامة شرع الله فى الأرض . وما كانت جريمة الاعتداء على صحيفة (شارلى إبدو ) بفرنسا إلا تغييرا للمنكر، واستندوا فى ذلك لآيات الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، قال تعالى: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ)، وقال تعالى: (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ). علماء الأزهر يؤكدون أن الفهم الخاطىء للآيات القرآنية يسىء إلى الإسلام، وأن الإنكار يكون باليد فى حق من استطاع ذلك كولاة الأمور و(الهيئة المختصة)، والإنسان فى بيته مع أولاده وأهل بيته فيما يستطيع، أما من لا يستطيع ذلك فإذا قام بتغيير المنكر بيده يترتب عليه ضرر أشد أو فتنة، فمن ليس فى سلطته التغيير بيده، فبلسانه ويكفيه ذلك لئلا يقع بإنكاره باليد ما هو أشد ضررا من المنكر الذى أنكره. وأوضح العلماء، أن تغيير المنكر باللسان فيجب أن يكون بالرفق وتوجيه النصح، ثم بعد ذلك بالقلب يعنى يكره بقلبه المنكر ويظهر كراهته ولا يجلس مع أهله فهذا من إنكاره بالقلب، والأهم من كل ذلك أن ضوابط تغيير المنكر ألا يؤدى إلى منكر أشد منه ضررا. شروط وضوابط ويقول الدكتور محمد رأفت عثمان، أستاذ الفقه المقارن بجامعة الأزهر وعضو هيئة كبار العلماء، إن الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر واجب متوجه إلى كل الأمة، سواء كان الشخص عالما بالعلوم الشرعية الدقيقة أو عالما بمجرد الأحكام الشرعية المعلومة من الدين بالضرورة، فيأمر بالمعروف وينهى عن المنكر فى حدود ما يعلم، وبين النبي، صلى الله عليه وسلم، الدرجات التى يلتزم بها الآمر بالمعروف والناهى عن المنكر فقال صلى الله عليه وسلم: (من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وهذا أضعف الإيمان) رواه مسلم فى الصحيح. وقال تعالى: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَر)، وسلطة الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، جعلها الإسلام لكل إنسان مهما صغر شأنه وهى إحدى الوسائل الكبرى لتغيير المجتمع إلى ما هو أفضل، والتنبيه إلى السلبيات الموجودة وإيجاد طرق علاجها، لكن العلماء بينوا قواعد عامة للأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، فمن القواعد ألا يؤدى إنكار المنكر إلى أشد منه، وقد استندوا فى هذا إلى ما ثبت عن النبي، صلى الله عليه وسلم، أنه قال لأم المؤمنين عائشة رضى الله عنها: « لولا أن قومك حديثو عهد بجاهلية لبنيت الكعبة على قواعد إبراهيم». موضحا أن الغرض والقصد من تغيير المنكر هو الوصول إلى الأحسن، فإذا كان سيؤدى إلى نتيجة أسوأ فالعقل والشرع يرفضه، وسلطة النهى عن المنكر لابد أن تكون بالكلمة الحسنة، تحسم النتيجة المرجوة، ففى هذا العصر الذى نعيش فيه يتم اللجوء إلى الحاكم، ليمنع الأمر السلبى والسيئ الذى يشكو منه المجتمع ، وإلا أدى إلى الفساد للتنازع بين الطرفين. إشكالية الفهم المغلوط ويؤكد الدكتور محمد الشحات الجندي، عضو مجمع البحوث الإسلامية، أن الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر مقصد شرعى مقرر بنصوص القرآن الكريم، ولذلك فإن هذا الواجب الشرعى مما تميزت به هذه الأمة على غيرها من الأمم، ولكن الإشكالية تكمن فى التطبيق خاصة، فى عصور التراجع الحضارى الذى ابتليت به الأمة الإسلامية عبر قرون طوال، ويستندون إلى بعض ظواهر النصوص ويواجهونه بما يكره على ملأ من الناس، لذلك قال هذا، ولعل هذه الإشكالية تتفاقم فى عصرنا الراهن (إشكالية الفهم المغلوط لقوله صلى الله عليه وسلم، من رأى منكم منكرا فليغيره بيده.....) ومنشأ الفهم المغلوط فى هذا الحديث أنهم لم يحققوا مغزى الحديث الشريف، لأن التغيير باليد عن المحققين من العلماء إنما يكون للحاكم ومن يحوز السلطة، أما التغيير باللسان فيكون للعلماء ومن توفر لديهم العلم الشرعى الصحيح، أما التغيير بالقلب فيكون للعامة، وجمهور الناس، هذا هو الفهم الذى ينبغى أن يمحصه كل مسلم، ولا نعنى بذلك أن المسلم يحجم عن حرية التعبير، أو عن إبداء رأيه فى الأمور، ولكن ما نعنيه هو أن نحفظ فريضة شرعية، هى وحدة الصف وجمع الشمل لمواجهة من يتربصون بالإسلام ويريدون تمزيق أوطانه، لذلك فإنه إذا كان الجمهور الأعظم من حقه التعبير عن الرأى ونقد الحاكم والمعارضة السلمية له، أو إذا رأى أمرا خاطئا أو كما حدث مؤخرا فيمن قتل الصحفيين المسئولين عن صحيفة «شارلى إبدو» تأسيسا على أنهم يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر أو يدافعون عن النبي، صلى الله عليه وسلم، هم ليسوا مؤهلين لهذا الأمر، حتى لو كان لديهم القدرة والاستطاعة ليفعلوا ذلك، كان عليهم أن يرجعوا إلى المؤسسات الدينية الوسطية لتقييم الأمر وما يمكن أن يترتب عليه من مكاسب أو مفاسد. ويصف الدكتور إسماعيل الدفتار، عضو هيئة كبار العلماء، ما حدث فى باريس بأنه جريمة إرهابية وليس تغييرا للمنكر كما يدعى هؤلاء المتطرفون، ويقول: من التوجيهات الإسلامية إعطاء النصيحة والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، ووضعت لذلك ضوابط وآداب لابد أن يرعاها المسلم الذى يقوم بها، فيجب أن يكون قصده الإخلاص لله أولا، وصالح من ينصحه أو يوجهه وأن يكون ذلك بحيث يجتذب إليه من يوجه إليه ذلك النصح، ولا ينفره حتى يتحقق المقصود، ومن أجل ذلك دعا الإسلام إلى الرفق بالآخرين ونبذ العنف، ويقول صلى الله عليه وسلم، ما كان الرفق فى شيء إلا زانه وما كان العنف فى شيء إلا شانه».