تلقى زيارة الرئيس للإمارات المزيد من الضوء على آفاق العلاقات الاقتصادية الثنائية بين البلدين، وهى التى برزت إلى الواجهة بصورة خاصة من خلال الدعم الاماراتى- إضافة للدعم السعودى والكويتى- للاقتصاد المصرى عقب ثورة 30 يونيو 2013. وفى مقدمة أبعاد دفع العلاقات الاقتصادية بين مصر والإمارات، وبلدان الخليج العربى بوجه عام، تحتل حركة التجارة البينية العربية مساحة واسعة من الجدل مع آمال بزيادتها بما يتوافق مع مستوى التكامل الاقتصادى العربى المنشود. لكن واقع الأمر يشير ربما إلى المبالغة فى تقدير آفاق تحفيز التجارة بين مصر وبلدان الخليج، بصورة عامة، والإمارات على وجه الخصوص، وتجاهل الهيكل التجارى للطرفين بوجه عام. التبادل التجارى فإذا نظرنا أولاً إلى حجم تجارة مصر مع دول الخليج فى عام 2013، فقد بلغت صادرات مصر إليها 28.3 مليار جنيه مصرى من إجمالى 197.7 مليار جنيه فى ذلك العام، أى 14.3% فقط، فى حين بلغت الواردات منها 51.2 مليار جنيه من اجمالى 456 مليار جنيه مصرى، بنسبة 11.2% من إجمالى الواردات المصرية. وكان نصيب الإمارات من التجارة مع مصر صادرات إليها بقيمة 5.3 مليار جنيه، وواردات بقيمة 7.6 مليار جنيه مصرى فقط. والحديث هنا عن زيادة حجم التبادل التجارى بين مصر والإمارات – وبلدان الخليج بشكل عام - يغفل فى واقع الأمر هيكل الصادرات والواردات الإجمالية للطرفين، حيث مثل النفط الخام ومنتجاته الشق الأكبر من الصادرات المصرية بقيمة 47.3 مليار جنيه تقريباً فى عام 2013، أعقبته المنتجات الكيماوية ثم الأقمشة والمنسوجات والمنتجات الزراعية، فى حين كانت الآلات والماكينات المُصنعة على رأس الواردات المصرية، تلتها المنتجات المعدنية (التى تضم النفط ومشتقاته)، ثم المعادن والحاصلات الزراعية. وعلى الجانب الآخر يحتل النفط والمنتجات الكيماوية مقدمة صادرات الإمارات بدورها. وبالتالى فباستثناء النفط، لا تصدر الامارات، و كذلك دول الخليج بصورة اجمالية، ما تحتاجه السوق المصرية. وفى الوقت ذاته فالصادرات المصرية لا تلبى احتياجات السوق الخليجية كماً أو كيفاً، حيث يمثل اجمالى الصادرات المصرية غير النفطية ما قيمته 20 مليار دولار تقريباً، فى حين بلغت واردات دول الخليج فى عام 2012 ما يقرب من 530.4 مليار دولار، بواردات اماراتية بلغت وحدها 234 مليار دولار أمريكى غلبت عليها واردات الآلات ومعدات النقل والمنتجات المصنعة – وهى واردات لا تصدرها مصر – ثم السلع الزراعية. بالتالى، فآفاق التجارة المصرية – الاماراتية، والخليجية بوجه عام، قد لا ترقى لمستوى الآمال نظراً للهيكل التجارى للطرفين والمرتبط بالأساس بالهيكلين الانتاجى والاستهلاكى للطرفين بصورة اجمالية، ومن ثم، فالتركيز عليها فى سياق دفع العلاقات الاقتصادية قد يمثل فى نهاية المطاف جهداً غير مثمر إلى الحد المنشود. لكن حركة التجارة لا تمثل البعد الوحيد للعلاقات الاقتصادية المصرية الاماراتية والخليجية كذلك، فالجانب الأكثر أهمية والذى يطرح فرصاً حقيقية للتعاون هو فى حركة عوامل الانتاج بين الطرفين، أى حركة العمالة ورءوس الأموال واستغلال التباين فى وفرتها بين مصر من جانب، والإمارات ودول الخليج العربى من جانب آخر. حركة العمالة ففى مصر بلغ معدل البطالة 13.2% من اجمالى القوة العاملة فى عام 2013، بإجمالى 3.6 مليون متعطل، وهى الأرقام الرسمية التى تُرجح التقديرات الاقتصادية عدم صحتها وتدفع بوجود ما يقرب من ضعف هذا المعدل من المتعطلين فى مصر، وبالتالى فوفرة الأيدى العاملة فى مصر هى واقع يطرح امكانات انتقال جزء منها إلى اقتصادات العجز فى العنصر البشرى، وعلى رأسها دول الخليج عموماً، والامارات على وجه الخصوص. فعلى الجانب الآخر، بلغت العمالة الوافدة إلى الامارات فى عام 2010 وفقاً لتقديرات الأممالمتحدة ما يقرب من 70% من اجمالى السكان فى البلاد، وهى النسبة المستقرة منذ عام 1990، وما يقرب من 90% من قوة العمل الاجمالية. وعلى الرغم من نص المادة العاشرة من القانون الاتحادى رقم 8 لسنة 1980 على أن تكون الأولوية فى استقدام العمال إلى «العمال العرب الذين ينتمون بجنسياتهم إلى احدى الدول العربية» إلا أن هيكل العمالة الوافدة فى الامارات يشير إلى تفضيلات مختلفة بصورة جذرية فيما يتعلق بجنسيات الوافدين، حيث تشير التقديرات فى عام 2010 إلى وجود 3.3 إلى 4 ملايين عامل وافد فى الإمارات، يمثل العمال من الهندوباكستان وحدهما 3 ملايين تقريباً مع اختلاف فى عدد العمال من كل منهما، حيث تشير تقديرات الأممالمتحدة إلى وجود 2.2 مليون عامل من الهند و500 ألف من باكستان، بينما تشير «كونفدرالية نقابة العمال الدولية» إلى وجود 1.75 مليون هندى و1.25 مليون باكستانى، وبالاضافة لذلك وجود ما يقرب من 400 ألف عامل من جنسيات آسيوية أخرى، بينما مثلت العمالة المصرية فى عام 2010 وفقاً لتقديرات الأممالمتحدة 141 ألف عامل فقط، وترفعها تقديرات غير رسمية إلى 240 ألفا وفقا لعام 2014. ويحمل هيكل العمالة الوافدة إلى دولة الإمارات وما يعكسه من تفضيلات لجنسيات بعينها دلالات اقتصادية قد تمثل عائقاً أمام مساعى زيادة تدفق العمالة المصرية إلى الإمارات، وهى تنطبق كذلك على بلدان الخليج الأخرى لكن بدرجات متفاوتة وربما أقل حدة. فعلى الأرجح تسعى الامارات من خلال اعتمادها الأساسى على البلدان الآسيوية سابقة الذكر كمصدر للعمال إلى استغلال كونها موطن عمالة من الأرخص على مستوى العالم، حيث تقل تكلفتها وفقاً ل «التقديرات» عن المصرية التى تعد بدورها أحد أقل العمالة تكلفة فى السوق العالمية، وتكون بذلك العمالة الآسيوية أكثر استعداداً لقبول أجور وظروف عمل أكثر تواضعاً، وبالتالى فاعتبارات الربحية وتقليص تكلفة الانتاج – المصحوبة بتجاهل تأثير التباين الاجتماعى والثقافى لهذا القدر من العمالة غير العربية على الداخل الاماراتى - تمثل عنصراً بارزاً فى هذا السياق للجانب الاماراتى بما قد يشكل عقبة أمام مساعى زيادة العمالة المصرية إليها مستقبلاً. تدفقات رءوس الأموال الشق الآخر من حركة عوامل الإنتاج بين مصر والإمارات هو فى انتقال رءوس الأموال من بلدان الفائض التى تمثلها هنا الامارات كما هو الحال فى بلدان الخليج النفطية، إلى مصر التى تفتقر لرءوس الأموال اللازمة. وبالتالى يعلق الكثيرون الآمال على زيادة تدفقات الاستثمارات الاماراتية والخليجية بوجه عام إلى مصر فى الفترة المقبلة لتكون المحرك الأساسى للنمو الاقتصادى والتنمية المستهدفين، خاصة فى ظل اجتماع الرئيس بوفد من كبار رجال الأعمال بالامارات فى أثناء زيارته بغرض تحفيز الاستثمارات إلى مصر. وترتبط هنا مساعى وآمال جذب المزيد من رءوس الأموال الاماراتية والخليجية بالبعد السياسى والاستراتيجى بالأساس، فالدعم الاقتصادى الخليجى، والاماراتى بصفة خاصة قد لعب دوراً بارزاً منذ 30 يونيو إلى الآن من خلال المنح والقروض التى تحصلت عليها مصر سواء فى صورة نقدية أو عينية. حيث بلغت المنح الرسمية إلى مصر منذ يوليو إلى ديسمبر 2013 أكثر من 6 مليارات دولار، والقروض 4.6 مليارات دولار وفقاً لبيانات البنك المركزى المصرى، والتى كانت على رأس مصادرها الامارات والسعودية والكويت. وبالتالى، فورقة المصالح الأمنية والاستراتيجية المشتركة لمصر من جهة، والامارات وبلدان الخليج من أخرى قد تبدو كافية فى نظر البعض لضمان استمرار التدفقات الخليجية إلى مصر فى المرحلة المقبلة لدعم الإدارة السياسية الحالية. لكن الأوضاع الاقتصادية الجديدة تطرح رؤى بديلة بدورها، وتشير إلى أن تغليب المصلحة الاقتصادية سيلعب دوراً أبرز فى توجيه العلاقات الثنائية فى الفترة المقبلة، فاستمرار تباطؤ الاقتصاد العالمى وتراجع أنشطة الخدمات المصرفية وحركة التجارة العالمية، بالاضافة لانهيار أسعار النفط من 107 دولاراًت للبرميل فى يونيو 2014 إلى 41.5 دولار فى منتصف يناير الحالى وتأثير ذلك على اقتصاد الامارات خصوصاً وبلدان الخليج بصفة عامة، يثير الشكوك حول استعدادها للاستمرار فى ضخ مزيد من المليارات فى صورة منح ومساعدات لا ترد. والنقطة البارزة فى هذا السياق، أن فى حين ضخت بلدان الخليج فى الستة أشهر الأولى بعد 30 يونيو أكثر من 10 مليارات دولار فى صورة منح وقروض، فإن استثماراتها الجديدة طوال السنة الأولى بعد الإطاحة بحكم جماعة الاخوان لم تتخط 1.1 مليار دولار فقط، تصدرتها الامارات ب 401.2 مليون دولار انخفاضاً من 480.6 فى عام 2012/2013، وهو ما يرسم بوضوح الخط الفاصل بين الاعتبارات السياسية وما يرتبط بها بمنح ومساعدات مؤقتة بصورة حتمية، والآفاق الاقتصادية المرتبطة بالأساس باعتبارات الربح والعائد على الاستثمارات طويلة المدى، وهى التى أدت إلى انخفاض تدفق الاستثمارات الإماراتية إلى مصر، واستمرار الثقل المتواضع للتدفقات الخليجية بالمقارنة باجمالى التدفقات التى بلغت فى العام المالى 2013\2014 ما يقرب من 10.9 مليار دولار، فى حين تظهر الامارات وبلدان الخليج استعداداً لتقديم «دعما» للاقتصاد المصرى، فإن استثماراتها تعكس تفضيلات أخرى، وبالتالى فتوقع تدفقات كبرى من الامارات قد لا تثبت صحته فى نهاية المطاف، خاصة فى ظل المتغيرات الدولية المذكورة. وجدير بالذكر، أن الامارات تمتلك ثانى أكبر صندوق سيادى فى العالم بعد النرويج، والذى يضم مخزون فوائض صادرات النفط فى العقود السابقة وذلك بقيمة 773 مليار دولار، يليه الصندوق السعودى ب 757.2 مليار دولار وفقاً لتقديرات معاهد مستقلة. وهى الفوائض التى تسعى الإمارات باستمرار إلى توظيفها فى استثمارات حول العالم لتحقيق أفضل استفادة منها، وقلصت بالتالى منذ سنوات من تركيزها على الاستثمار فى أذونات الخزانة الأمريكية ذات العائد بالغ الانخفاض، لحساب الاستثمار فى قطاعات وأنشطة متنوعة، والاتجاه التدريجى صوب الاقتصادات الناشئة ذات معدل النمو المرتفع كالصين والهند بحثاً عن عائد أفضل على الاستثمار، وهو انعكاس صريح للمنظور الاقتصادى الذى يشير إلى أن تدفق الاستثمارات الأجنبية الهادف للربح فى المقام الأول يكون نتيجة للنمو الاقتصادى، وليس سببا فيه. استفادة متبادلة المشهد بصورة عامة إذن هو أن التعاون والتبادل الاقتصادى الشامل بين مصر من جهة والامارات من أخرى قد يحمل آفاقاً للتحسن والاستفادة المتبادلة للطرفين. لكن من يعول على هذا التعاون – بما فى ذلك الإدارة السياسية ذاتها – لتحقيق نقلة فعلية فى الاقتصاد المصرى فى الفترة المقبلة ووضعه على طريق التنمية والنمو الاقتصاديين غالباً ما ستخيب توقعاته. فتقليص معدلات البطالة بصورة فعالة اقتصادياً و«اجتماعياً» لن يتحقق بزيادة العاملين المصريين فى الإمارات، كما تثبت البيانات الراهنة ومن قبلها التصريحات السابقة غير المتحققة سواء فى فترة حكم الرئيس الأسبق محمد مرسى أو منذ ثورة 30 يونيو، حول قرب تدفق عشرات المليارات من الدولارات كاستثمارات من دول الخليج إلى مصر أن رءوس الأموال تتحرك وفقاً لاعتبارات الربحية بالأساس، وبالتالى فالسبيل لجذبها هو تحقيق النمو الاقتصادى وليس انتظارها لدفعه، وهو ما لن يتم بالحجم المنشود إلا من خلال تحريك المدخرات المحلية لتمويل أولويات الاستثمار المحلى التى تخدم أغراض النمو والتنمية على مختلف الأبعاد.