تعددت الأماكن واختلفت الأزمنة إلا قليلا والجوهر واحد، إرهاب وتطرف وعنف وقتل للمفكرين والمبدعين، غير أن ردود الأفعال تختلف باختلاف المكان والجنسية. وفى ظل الجدل الدائر حول حادث فرنسا ومخاوف المبدعين والنشطاء من فرض المزيد من القيود على حرية الإبداع، أكد علماء الدين أن حرية التعبير لا تعنى الاستهزاء بالأديان، وهذا ما تؤكده الدساتير والمواثيق والأعراف الدولية .. وما نصت عليه أيضا الديانات السماوية. وأوضح العلماء أن “ وثيقة الأزهر”وضعت حدا فاصلا بين حرية الإبداع وقداسة الأديان السماوية، وبينت الخطوط الفاصلة والضوابط التى يجب مراعاتها فى الأعمال الأدبية وإلا كانت عبثا مرفوضا. وحددت “ وثيقة الأزهر” القاعدة الأساسية التى تحكم حرية الإبداع بمدى قابلية المجتمع وقدرته على استيعاب عناصر التراث والتجديد فى الإبداع الأدبى والفنى ما لم تمس المشاعر الدينية أو القيم الأخلاقية المستقرة. كما طالب العلماء بسن قانون دولى يُجرّم الإساءة للأديان السماوية والأنبياء والرسل. وأكد علماء الأزهر أن حرية الرأى والتعبير، حقوق إنسانية ثابتة ومصونة ومؤكد عليها فى القرآن الكريم وسنة الرسول، صلى الله عليه وسلم.. التى اتبعها خلال ما قام به فى الدولة الوحيدة التى أقام دعائمها فى المدينةالمنورة، مادام لم يعتد على أحد وآثر أن يعيش فى سلم وأمن وسلام. وكان الخلفاء الراشدون، رضوان الله عليهم، فى طليعة من جسدوا، بسلوكياتهم وممارساتهم، جوهر الفكر الإسلامى النقى فى جميع المجالات، ومن المنطقى أنهم أولوا حرية الرأى والتعبير مكانة سامية تتمثل بجلاء ووضوح فى كثير من مواقفهم العملية المضيئة. ضوابط حرية الفكر ويقول الدكتور عبدالفتاح إدريس،أستاذ الفقه المقارن بجامعة الأزهر، إن معتقد الناس له احترامه وتقديره، وهو من ضمن الحقوق التى تكفلها القوانين فى الدساتير والمعاهدات والاتفاقات الدولية ولهذا فإنه من المحظور المتفق عليه فى المجتمع الدولى حق كل فرد أن يعتقد فيما يشاء وأن يكون له حرية ممارسة ما يمليه عليه معتقده، دون المساس به أو التسفيه من شأن معتقده أو المساس برموز هذا المعتقد، ولهذا فإن إنذار المجتمع الدولى أحوج باعتبار أن المجتمع ينظر إلى الحقوق وكفالتها للأفراد فى جانب ثم ينظر إلى إطلاق العنان لهذه الحقوق والحريات دون حدود، ويجعلها فى الجانب الآخر، وما حدث من قبل ومن بعد وسيحدث فى المجتمع الدولى هو انطلاق المعربدين للإساءة إلى رموز الديانات السماوية وغيرها وكأنهم بهذا يمارسون حرية إبداء الرأي، ولكن من المتفق عليه عالميا أن لكل حرية حدودا، تنتهى حينما تكون هذه الحرية اعتداء على حقوق الآخرين، ومما لاشك فيه أن بوسع أى صحيفة أن يعبر القائمون عليها عن رأيهم، ولكن ليس بوسعهم أن يتجاوزوا حدود هذه الحرية، بحيث يجعلون من حريتهم تلك مساسا بحقوق الآخرين فى احترام دياناتهم ورموز هذه الديانات، وذلك لأن هذا لا يكفله قانون أو دستور أو اتفاق دولي. حق الاختلاف من جانبه يرى الدكتور حامد أبو طالب، عضو مجمع البحوث الإسلامية، أن وثيقة الأزهر للحريات شملت حرية الفكر وهذا الأمر منصوص عليه فى الشريعة الإسلامية وهو يعطى المسلم الحرية الحقيقية فى فكره وآرائه وأفعاله، ولكن هذه الحرية ليست مطلقة من كل القيود إنما هى محددة بما لا يضر المجتمع من منطلق فكرى يطلق عليه القانونيون النظام العام وهى مجموعة من المبادئ الأساسية التى يحافظ عليها المجتمع وتتمثل فى أساسيات الحياة وهذه الأمور ينظمها القانون بقواعد صارمة لا يجوز مخالفتها وهذا النظام العام مصدره الشريعة الإسلامية ومقاصدها من حماية الدين والنفس والعقل والنسل والمال، وهذه الأمور تمثل أساسيات فى المجتمع يجب حمايتها، فالمفكر يبدع كيف يشاء ولكن دون التعارض مع هذه الضروريات الخمس. من جانبه أوضح الدكتور محمد إسماعيل بحيرى أستاذ العقيدة وخطيب مسجد الزهراء بمدينة نصر أن الوثيقة تعطى نموذجا للقراءة الاجتهادية للشرع عبر البحث فيه عن القيم الكونية النبيلة واعتمادها فى ملاءمة الدين الإسلامى مع حاجات المجتمع المعاصر، موجهة فى نفس الوقت نقدا قويا لنزعات التطرف اللاعقلانية التى تؤدى إلى حدوث التصادم بين العقيدة ومؤسسات المجتمع وتطلعات قواه الحية إلى حياة أفضل وأكثر إنسانية حيث يترتب أيضًا على احترام حرية الاعتقاد رفض نزعات الإقصاء والتكفير، ورفض التوجهات التى تدين عقائد الآخرين ومحاولات التفتيش فى ضمائر المؤمنين بهذه العقائد، بناء على ما استقرَّ من نظم دستورية بل بناء على ما استقر قبل ذلك - بين علماء المسلمين من أحكام صريحة قاطعة قرّرتها الشريعة السمحاء فى الأثر النبوى الشريف: (هلا شققتَ عن قلبه) كما اعتبرت الوثيقة أن حرية التعبير هى أساس الدولة الديمقراطية، لافتة الانتباه إلى أهمية التربية على الحرية والحق فى الاختلاف ذلك لأن حرية الرأى والتعبير هى المظهر الحقيقى للديمقراطية، وتوخى الحكمة فى تكوين رأى عام يتسم بالتسامح وسعة الأفق ويحتكم للحوار ونبذ التعصب. خطورة المساس بالعقائد ويوضح الدكتور مختار مرزوق، عميد كلية أصول الدين بأسيوط، أنه من الخطأ بمكان أن يتجادل الناس فى العقائد على صفحات الجرائد وشاشات الفضائيات ومواقع الانترنت باسم حرية التعبير، ولقد كان من منهج شيوخ الأزهر قديما وحديثا، عدم الجدال فى أمور العقيدة، وكانوا يقولون نتعاون فيما اتفقنا عليه من الأخلاق وحُسن المعاملة، أما العقيدة فلكل دين ثوابته، (لكم دينكم ولى دين). أما عن حدود التعبير فى الإسلام فالواجب ألا تكون هذه الحرية مدعاة إلى الطعن فى عقائد الآخرين، والاستهزاء بهم وبثوابتهم الدينية، ومن المشهور عند أهل العلم والفقه أن حرية الإنسان تبدأ عند انتهاء حرية غيره. وطالب الدكتور مرزوق بسن قانون دولى يجرم التطاول على عقائد الآخرين وثوابتهم، بسبب ما نراه هذه الأيام من تطاول على النبي، صلى الله عليه وسلم، وكذلك ما نراه من تطاول غلاة الشيعة على أصحاب النبي، صلى الله عليه وسلم، وتكفيرهم للصحابة، عيانا بيانا فى فضائياتهم المبثوثة فى العالم العربي، وكذلك ما نراه من استهزاء بكثير من شعائر الإسلام، ومثل هذه الممارسات تخلق جيلا متطرفا يفجر الأوضاع فى داخل أوروبا وخارجها، ولن يكون أحد بمنجى ولا منأى عن ذلك، ولن يسمع المتطرفون لأصحاب الفكر الوسطي.