من النادر فى عالم السياسة أن تجتمع الآراء على شىء واحد، ولكن فى قضية المال السياسى وتوجيهه فى الانتخابات اتفق الجميع خبراء وبسطاء على شيئين.. الأول أنه لم تخل انتخابات برلمانية على مدار التاريخ المصرى الحديث منذ منتصف السبعينيات من تجاوزات واضحة للقوانين المنظمة للدعاية الانتخابية من جانب بعض المرشحين، والأمر الثانى والأكثر خطورة أنه لم يتم رصد حالة واحدة تم فيها تطبيق القانون سواء بشطب اسم المرشح المخالف من الجداول الانتخابية أو إسقاط عضويته فى حالة فوزه فى السباق الانتخابى. ومع اقتراب الانتخابات البرلمانية الأكثر أهمية فى الحياة النيابية المصرية بحكم الظروف الراهنة أصبح من الضرورى أن نفتح ملف المال السياسى، فى محاولة لتهيئة أجواء أكثر شفافية ونزاهة، تضمن توافر فرص أكثر حيادية للمرشحين وتضع بداية جديدة قد تكون حاسمة فى ضبط إيقاع الفساد السياسى فى أى انتخابات مقبلة. مصطلح المال السياسى كما يشرح الدكتور عمرو هاشم ربيع الخبير السياسى يطلق على المال فى وقت الانتخابات ليعبر عن درجة من درجات التجاوز فى سقف الدعاية الانتخابية، وهو مصطلح واسع يشمل أمورا أخرى قبل وبعد الانتخابات ويظهر بوضوح فى العمل الحزبى والنقابى بشكل عام. يقول الدكتور عمرو: إن المال السياسى فى الانتخابات إما يوجه للناخبين أو المرشَحين أو المرشِحين، ويوضح أنه بالنسبة للمرشِحين الذين يقومون بترشيح أشخاص لعضوية البرلمان على قوائم حزبية أوغيرها كانت هذه الظاهرة موجودة بصورة لافتة فى عهد الحزب الوطنى ولم يعد لها وجود حالياً، وهى مرتبطة بمنظومة الفساد السياسى فى الدولة، عندما كان المسئول يتقاضى مبلغاً معيناً مقابل ترشيح شخص على قوائم ما ويضمن نجاحه. وبالنسبة للمرشَحين تكون التجاوزات فى المال السياسى فى صورة تجاوز الحد القانونى للدعاية الانتخابية سواء من جهات وأفراد داخلية أو منظمات ودول خارجية لتحقيق أهدافها السياسية. ويلفت الدكتور عمرو النظر إلى صورة أخرى من أوجه إنفاق المال السياسى على المرشَحين، حيث قد يحصل المرشح على أموال للخروج من السباق الانتخابى، وأيضاً قد يحصل على أموال ليترشح فى الإنتخابات بهدف تفتيت الأصوات، أما الناخبون فيوجه المال السياسى لهم فى صورة رشاوى انتخابية عينية أو نقدية لشراء أصواتهم . المال السياسى موجود فى أى انتخابات فى العالم، هذه هى وجهة نظر د. عمار على حسن المحلل والباحث السياسى، الذى يقسم المال السياسى إلى شقين: الأول قانونى يحدد بسقف الإنفاق على الدعاية المقرر قانوناً سواء للأفراد أو الأحزاب، والثانى بالخروج على القانون من خلال الإفراط فى الإنفاق، وهو ما شكل آفة جسيمة للانتخابات فى مصر منذ تجربة 1976 وحتى هذه اللحظة. ويؤكد د. عمار أنه لم تخل انتخابات فى مصر من توظيف المال السياسى فى عدة اتجاهات مثل تكثيف الدعاية بما يخل بتكافؤ الفرص السياسية بين القادرين وغيرهم، والأفدح شراء الأصوات الإنتخابية مقابل مال زهيد وصل فى بعض الأحيان إلى 1000 جنيه للصوت الواحد. ويقول: لا ننسى أن القانون كان يحدد 10 ملايين جنيه كحد أقصى فى أول انتخابات رئاسية أعقبت ثورة يناير 2011، بينما اعترف خيرت الشاطر القيادى بجماعة الإخوان أن الجماعة أنفقت 750 مليون جنيه لدعم مرشحيها، مضيفاً أعتقد أن الرقم قد يزيد عن هذا المبلغ بكثير. ومن وجهة نظر المحلل السياسى فإن الإنتخابات المقبلة قد تنحسر فيها ظاهرة المال السياسى غير المشروع ولكنها ستستمر، فهناك من أصحاب المال رجال أعمال يدعمون قوائم انتخابية أو أشخاص يتنافسون على المقاعد الفردية سواء فى الدعاية أو شراء الأصوات. ويؤكد د. عمار أن ارتفاع نسبة المشاركة يساعد انحسار الظاهرة، فلا أحد يستطيع شراء أصوات جميع الناخبين مهما بلغت قدراته المالية، بجانب أن شعار أخذ منه ولا تمنحه صوتاً أصبح متداولاً الآن حتى بين البسطاء من الناس، وبعض دافعى الأموال انتبهوا إلى هذه النقطة حتى إن عددا منهم لجأ إلى بعض الوسائل مثل الورقة الدوارة فى محاولة للتأكد من الحصول على الأصوات التى يدفعون مقابلها، لافتاً الى أن رقابة القضاء ومنظمات المجتمع المدنى نجحت بدرجة ما فى الحد من قدرة المال السياسى على تحقيق النتائج وليس فى الحد من استخدامه. ولمحمد أنور السادات رئيس حزب الإصلاح والتنمية وجهة نظر فهو يعتقد أنه من الصعوبة السيطرة علي المال السياسى لأن له طرقا كثيرة من الصعب حصرها أو تتبعها، ويدعم حديثه بأنه على مدار التاريخ المصرى لم يتم اتخاذ أى إجراء ضد من تجاوز السقف القانونى للصرف على الدعاية الانتخابية، سواء بشطب إسمه من الجداول الانتخابية أو إسقاط عضويته بعد نجاحه. ويقول السادات: الحملات الإعلانية للقوائم الانتخابية قيمتها بالملايين وتتعدى بكثير ما تم تحديده لسقف الدعاية الانتخابية. ويرى رئيس الحزب أنه فى حالة اتخاذ أى إجراء ضد المرشحين المخالفين للقواعد القانونية للدعاية ستكون هذه سابقة، ورسالة تحذير قوية لكل من يفكر فى مخالفة القوانين فى أى انتخابات مقبلة. ويضيف: لم نشاهد أى تقارير رقابية عن الانتخابات تم تفعيلها أو اتخاذ إجراءات تجاهها، خاصة أنها عادة ما تتضمن دلائل وليس دليلا، فالدلائل غير موثقة أما الدليل فيكون مؤكداً ومثبتاً. ورغم ذلك يرى السادات أن اتخاذ إجراء تجاه المخالفات المالية للمرشحين مسألة مهمة تستدعى محاولة تطبيقها سواء من جانب اللجنة العليا للانتخابات أو منظمات المجتمع المدنى. ويرى أنه يمكن وضع آلية لتفعيل الإجراءات ضد المخالفين بإنشاء لجان رصد ومتابعة بمعرفة اللجنة العليا للانتخابات، بشرط أن تكون تقاريرها موثقة، ولا مانع من انتداب أعضاء من الجهاز المركزى للمحاسبات للمشاركة فى هذه اللجان والتدقيق فى الممارسات المالية للمرشحين. ويقول السادات: نحن نريد التأسيس للمستقبل وحتى لو نجحنا بنسبة 50% فقط فى الحد من المال السياسى غير المشروع فى الإنتخابات البرلمانية المقبلة، فهذا فى حد ذاته إنجاز يؤسس للمزيد من النزاهة والحيادية فى أى انتخابات مقبلة ويمهد للقضاء مستقبلاً على فساد المال السياسى. وعلى المستوى الحقوقى، تطالب نهاد أبو القمصان، الناشطة فى مجال حقوق الإنسان، بضرورة توافر آلية للجنة العليا للإنتخابات تتمكن بواسطتها من الاستجابة لشكاوى منظمات المجتمع المدنى التى تراقب الانتخابات أو المتنافسين فيها. وتقول الناشطة الحقوقية: فى الماضى كان يتم توزيع هدايا عينية على الناخبين لشراء أصواتهم، وتم رصدها وتوثيقها، متسائلة: ولكن ماذا بعد الرصد؟ وترى نهاد أبو القمصان أن الدولة يجب أن تتدخل بنفسها عن طريق لجنة بها خبراء ماليون ومحققون من وزارة العدل يمكن انتدابهم للتحقيق فى الشكاوى. وتتعدد الأشكال التى يظهر من خلالها المال السياسى فى الانتخابات، فكما تقول الناشطة الحقوقية يمكن أن يظهر فى صورة دعاية إعلامية فى الفضائيات أو الجرائد وغيرها من وسائل الإعلام، كما يمكن أن يظهر فى صورة دعم مالى مباشر للمرشح، وقد يظهر فى يوم الإنتخابات فى صورة رشاوى نقدية أو عينية. وتوضح نهاد بالنسبة للشق الإعلامى فهناك جهات حكومية على أعلى مستوى ترصد المخالفات الإعلامية فى الدعاية الانتخابية وتصدر تقارير احترافية دقيقة بشأنها ولكن ينقصنا اتخاذ الإجراءات القانونية تجاه الجهة المخالفة مثل تغريم الفضائيات والجرائد المتجاوزة أو أصحابها إذا كانوا هم أنفسهم مرشحين. وبالنسبة للتجاوزات المالية للمرشحين فى الدعاية تقترح نهاد أبو القمصان انتداب 3 أو 4 مراقبين من مكتب الخبراء التابع لوزارة العدل فى كل محافظة، مع الأخذ بتقاريرهم واتخاذ الإجراءات القانونية حيالها، بالإضافة إلى ضرورة الأخذ بتقارير المنظمات الحقوقية التى تقوم بمراقبة الشق الميدانى للانتخابات وتوثيق المخالفات. باختصار ترى نهاد أبو القمصان أنه لا تنقصنا سوى الإرادة السياسية والقدرة على اتخاذ القرار وأن نكون جادين فى تطبيق القانون، فنحن لدينا ترسانة من القوانين القادرة على ضبط وتنظيم العملية الإنتخابية ولكن ينبغى تفعيلها.