في مطلع الثمانينيات من القرن الماضي، وأثناء تصوير أحد المسلسلات التي يطلق عليها (دينية تاريخية)، فوجيء مخرج المسلسل بأن مهندس المناظر قد وقع في خطأ غريب من نوعه، كان من المفترض تصوير مشهد للمسلمين وهم يقتحمون احدي قلاع الكفار ويتمكنون منهم وينتصرون عليهم، إلا أنه وأثناء تنفيذ (الديكور) جاءت السلالم التي يصعد عليها المسلمون كي يقوموا بعملية الاقتحام أقصر قليلا من ارتفاع القلعة، فكيف يمكن للمسلمين إذن أن يصعدوا إلي أعلي القلعة كي يتمكنوا من الحرب ضد الكفار؟!!.. كان الأمر يقتضي إلغاء التصوير بكل ما يتكلفه من نفقات كأجور (مجاميع) ومعدات وعاملين بالمسلسل وإعادة تصنيع السلالم من جديد كي تصل إلي ارتفاع القلعة، وكان السؤال الملح من سيتحمل هذه النفقات الباهظة نسبيا، ومسئولية إلغاء التصوير، خاصة وأن المسلسل من إنتاج اتحاد الإذاعة والتليفزيون مما يعد اهدارا للمال العام، وازاء هذا الموقف الذي بدا عصيبا تفتق ذهن المخرج عن فكرة عدها الجميع حلا مقبولا لهذه المشكلة، وهي أن يصعد المسلمون علي السلالم إلي آخر درجاتها ويمد الكفار اياديهم إلي المسلمين ويساعدونهم علي الصعود إلي القلعة ثم يتبارزون معهم بالسيوف ويسقطون صرعي أمامهم حسب السيناريو المكتوب، وهكذا تم تصوير المشهد، وكفي الله المؤمنين شر السلالم القصيرة القاصرة عن حملهم إلي أعلي القلعة.. ومن المؤكد أن عددا من المشاهدين قد فطن إلي تلك الحيلة (العبيطة) التي لجأ إليها المخرج ومروا عليها مرور الكرام، فالمهم في الأمر أن المسلمين قد انتصروا علي الكفار في النهاية.. وهنا يتبادر سؤال إلي الذهن، ماذا لو أن أحد الباحثين المدققين قرر أن يتخذ من المواد التاريخية المصورة مادة لدراسة التاريخ، وماذا لو كان مستشرقا أو باحثا أجنبيا مثلا لا يفهم ولا يستطيع أن يتفهم (فهلوتنا) القومية في مثل هذه الأمور التي لا يصح الهزل فيها وشاهد هذا المسلسل؟!، أغلب الظن أنه سيصل إلي نتيجة مؤداها أن الكفار قد ساعدوا المسلمين في الانتصار عليهم وقتلهم، وانهم (أي الكفار) قد تحولوا بهذه المساعدة إلي شهداء ضحوا بحياتهم في سبيل نصرة الإسلام وعزته(؟!!!)، فلم نعرف حتي الآن في مجال تقديم تاريخنا خلال الأفلام السينمائية والأعمال التليفزيونية الدرامية، المصرية منها والعربية علي حد سواء، فضيلة الحرص علي دقة المعلومات التاريخية، وهو أمر لا نختص به وحدنا حيث أنه يشمل الأفلام الروائية الخيالية في العالم، وبصورة خاصة السينما الأمريكية الهوليوودية، ولذا فان آخر ما يمكن الاعتماد عليه في المعرفة التاريخية هو الأفلام السينمائية الروائية التاريخية، والتي نقدم فيها وبشكل من المبالغة الحقائق التاريخية كما نهواها نحن، أو كما نريد لها أن تكون، ومنذ أن قدمت السينما المصرية أول فيلم تاريخي روائي طويل وهوفيلم «شجرة الدر» إخراج وقصة وسيناريو وحوار وبطولة أحمد جلال بالاشتراك مع آسيا وماري كويني عام 1935 وحتي فيلم «المصير» من إخراج يوسف شاهين عام 1997، مرورا بالعديد من الأفلام، لا يصلح أيا منها لأن يكون مادة للدراسات التاريخية، فجميعها يتضمن في أفضل الأحوال صياغات تاريخية تخضع للمواصفات التجارية للسينما، والتي يبدو الالتزام بها أكثر أهمية من الالتزام بالوقائع التاريخية، بالإضافة إلي قيود رقابية متعسفة تفرض الرؤية الرسمية الدعائية للنظام للأحداث التاريخية وبشكل خاص ما هو معاصر منها.. أما ما فعلناه بتاريخنا في الأفلام الروائية فيصل في بعض الأحيان إلي أقصي درجات الهزل، بل وإلي جد (التهريج) في معظم الأحيان، ولو تأملنا الأفلام التي تناولت ثورة 23 يوليو عام 1952 علي سبيل المثال، فسنجد أن أولها وهو فيلم «عفريت عم عبده» من إخراج حسين فوزي عام 1953، يقدم في ثنايا ما يقدمه، مقتل شخص يدعي عم عبده وظهور عفريته، ويقرر أبطال الفيلم اصدار جريدة بعنوان «أخبار بكرة» يخبرهم العفريت خلالها بأخبار الغد، ويظهر العفريت وهو يعلن: «سيقوم الجيش غدا بحركة مباركة» ونشاهد الدبابات والسيارات المصفحة وهي تحيط بقصر عابدين(؟!!)، أما فيلمي «الله معنا» إخراج أحمد بدرخان عام 1955 و«رد قلبي» إخراج عزالدين ذوالفقار عام 1957 فتبدو ثورة يوليو خلالهما وانها قد قامت لحل مشكلة زواج صغار الضباط من بنات الأسر الاقطاعية، وهي علي نحو ما تبدو كصياغة ثورية عصرية للحكاية الشعبية الشهيرة «الشاطر حسن وست الحسن والجمال»، بينما تقدم ثورة يوليو في فيلم «غروب وشروق» إخراج كمال الشيخ عام 1970، علي أنها نتيجة لقيام شخص بالتآمر مع بنت الباشا رئيس البوليس السياسي قبل الثورة، ويقع بالطبع في حبها ولكنها تطلب الفراق عنه إلي الأبد، وإذا انتقلنا إلي وقائع التاريخ المعاصر فسنجد المخرج حسام الدين مصطفي يضع في مقدمة فيلمه «جريمة في الحي الهاديء» عام 1967 أغرب لافتة ظهرت في تاريخ السينما علي الاطلاق بالاعتذار عن أن المباني والشوارع التي يصور بها الفيلم معاصرة لزمن التصوير وليس لزمن الفيلم رغم أن الأحداث حقيقية(؟!!)، أما الفيلم الذي تدور أحداثه عام 1945، أي بفاصل اثنين وعشرين عاما فقط عن زمن التصوير، فهو مجرد صياغة بوليسية يصل فيها تبسيط قضية اللورد موين الوزير البريطاني المقيم في القاهرة إلي أنه قد تم اغتياله لأنه قال: «إسرائيل موش كويس» (؟!!).. وعلي مستوي التاريخ العربي المعاصر أيضا ، فهناك فيلم «جميلة» إخراج يوسف شاهين عام 1958 عن المناضلة الجزائرية جميلة بوحيرد الذي شاهدته بطلته عقب خروجها من السجن عام 1962 وابدت اعجابها به رغم أنه لا علاقة له بالواقع علي حد قولها، حيث أعطي الفيلم ايحاء بقصة حب بين جميلة وقائد المقاومة السرية يوسف، بينما كانت جميلة قد تزوجت محاميها الفرنسي المناضل جاك فيرجاس الذي قام بالدفاع عنها وعن مناضلي جبهة التحرير الوطني الجزائرية.. وكذلك أيضا فيلم «ثورة اليمن» إخراج عاطف سالم عام 1966، حيث يحول أحداث ثورة اليمن ودوافعها إلي قصة حب ساذجة لشاب يمني درس في جامعة القاهرة أحب احدي الفتيات، فقام الإمام الطاغية بمحاولة التخلص منه، ولكن الشاب ينجو من محاولة الاغتيال وينتمي لمنظمة ثورية في الجيش ويقومون بانقلاب ويزيحون الإمام من السلطة ويتزوج الفتي اليمني من الفتاة التي يحبها. وبالطبع لا تختلف الأفلام التاريخية ليوسف شاهين مثل «الناصر صلاح الدين» عام 1963 و«وداعا يا بونابرت» عام 1985 و«المهاجر» عام 1994 و«المصير» عام 1997، وبرغم مستواها الفني المرتفع والإنتاجي الضخم عن سائر الأفلام التاريخية الخيالية التي لا تصلح لأن تكون مصدرا للمعرفة التاريخية بكل شطحات شاهين سواء الدعائي السياس منها مثل «الناصر صلاح الدين» أو الرؤي الذاتية الخالصة في دقتها والتي اعتبر بعضها جزءا من سيرته الذاتية.. ناهيك عما قامت به السيدة أمينة الصاوي في مسلسلها الشهير «لا إله إلا الله» باجزائه الأربعة، من تشويه للتاريخ المصري القديم، حيث اعتبرت أن المصريين القدماء هم الكفار في مواجهة ايماءات صريحة عن المؤمنين العبرانيين.. لكل ما سبق وأكثر منه، يبدو منع فيم «اكسودس، آلهة وملوك» للمخرج البريطاني الأصل ريدلي سكوت بحجة تزوير التاريخ أمرا غريبا، بل ومثيرا للشفقة والسخرية، فهذا الفيلم الذي يعد علي نحو ما إعادة عصرية لفيلم «الوصايا العشر» للمخرج الأمريكي الأشهر في تاريخ السينما سيسل دي ميل، والذي سبق وأن قام بإخراجه مرتين، المرة الأولي عام 1942 في فترة السينما الصامتة، والثانية التي تم تصوير معظمها في مصر ومنعتها الرقابة من العرض عام 1956، واستغرق الأمر سنوات عديدة ومع ثورة الاتصالات أصبح فيلم «الوصايا العشر» متاحا للمشاهدة عن طريق شرائط الفيديو ثم الأسطوانات المدمجة، وأخيرا التواجد شبكة (النت) العملاقة حيث أصبح من المستحيل منع عرض أو مشاهدة أي فيلم في العالم بما فيها فيلم ريدلي سكوت الأخير «كسودس، آلهة وملوك» ولأننا كما يبدو لا نتعلم ولا نحاول أن نتعلم كيف نتعامل مع أو نتخاطب معه، ونظل في وهم أن العالم كله يتآمر علينا، مع أن واقع الحال يؤكد أن العالم لا يهتم بنا إلي هذه الدرجة التي نتصورها عن أنفسنا، وعلي مبعدة تسعين عاما من فيلم «الوصايا العشر» الأول وحوالي الستين عاما من الثاني، يمكننا أن نتساءل: «هل أخذ أحد في العالم هذا الفيلم كمصدر للمعرفة التاريخية؟!» ويمكننا أن نتساءل في نفس السياق: «هل سيأخذ أحدا فيلم سكوت الأخير كمصدر للمعرفة التاريخية، بل وهل تم التعامل مع فيلمه «مملكة الجنة» الذي قام بصنعه منذ حوالي ثماني أعوام عن الحروب الصليبية كمصدر للتاريخ؟!» وبقدر ما يعد فيلم «الوصايا العشر» لميل رؤية أكثر تطابقا مع التوراة، يختلف فيلم «اكسودس، آلهة وملوك» معه من هذه الزاوية حيث يري مخرجه ريدلي سكوت: «ان التوراة قد اغفلت اجزاء هامة في قصة خروج موسي من مصر، وبالتالي فعلي الفنانين والمخرجين أن يقدموا تصورهم الخاص لذلك». ونتيجة لذلك فلقد تعرض الفيلم لحملة دينية ضخمة يهودية ومسيحية وإسلامية لانكاره معجزة شق البحر، وبدلا من أن يشقه بعصاه وجه إليه حد سيفه، كما اعتبرت تصريحات بطل الفيلم كريستيان بيل الذي قام بدور موسي تطاولا علي شخصية النبي موسي.. ورغم ذلك، ورغم الحملة المضادة للفيلم في أمريكا وكوريا الجنوبية والمكسيك وأسبانيا وغيرها من بلدان العالم، فلم يمنع عرض الفيلم سوي في مصر والمغرب، ثم قامت الإمارات برفعه من دور العرض، ثم ما لبث المغرب أن تراجع عن قرار منع العرض وعاد الفيلم مرة أخري إلي شاشاتها. وكمحاولة لتجنب هذه الفضائح المتتالية بمنع عرض الأفلام في مصر، صرح د.جابر عصفور لوكالة الأنباء الفرنسية بان «قرار منع العرض اتخذته وزارة الثقافة ولا علاقة بالأزهر به بل ولم يؤخذ رأيه في عرض الفيلم من عدمه، وان الفيلم صهيوني بامتياز ويعرض التاريخ من وجهة نظر صهيونية ويتضمن تزييفا للوقائع التاريخية»، وأضاف بأن: «الفيلم يجعل موسي واليهود بناة للأهرامات وهو ما يتناقض مع الوقائع التاريخية الحقيقية».. ورغم أن د.عصفور حاول أن يبدو ليبراليا وعلميا في رفضه للفيلم، إلا أن ذلك لم يعجب السلفي البرهامي الذي صب هجومه علي د.عصفور بحجة أنه: «يبدي مصالح الوطن علي الدين، وكان عليه أن يتحدث عن معجزة شق البحر»، وعلي د.جابر عصفور أن يدرك أنه إذا فتح الباب للابتزاز باسم الدين، فلن يتوقف أبدا. أما البيان الذي صدر عن لجنة شكلتها وزارة الثقافة برئاسة د.محمد عفيفي أمين المجلس الأعلي للثقافة وهو أستاذ للتاريخ، فلقد كان أجدي بها أن تصرح بعرض الفيلم ومناقشته، بدلا من هذه الوصاية المقيتة عديمة الجدوي، حيث تحتم اللجنة بيانها بهذه العبارة التي تدعو إلي السخرية: «كنا نود أن نصرح بعرض الفيلم انتصارا لحرية التعبير والإبداع، إلا أن هذا قد يؤدي إلي تسريب تلك الأفكار المغلوطة التي يبثها الفيلم، لجيل يستقي معظم معارفه وثقافته عبر تلك الأفلام». ويبدو أن هذه اللجنة المغيبة عن الواقع لا تدري أن الشباب يستقي معلوماته الآن من شبكة (النت) التي يعرض عليها الفيلم كاملا ومترجما إلي العربية عبر العديد من المواقع، وأن وزارة الثقافة برقابتها البدائية المتخلفة لا تستطيع أن تمنع شيئا أو تراقب شيئا لشعب تجاوز بنضجه ووعيه الذي عبر عنه بثورتين عظيمتين في أقل من عامين ونصف، كل أشكال الوصاية التافهة الزائفة. ان فيلم «اكسودس، آلهة وملوك» مثله مثل غيره من الأفلام الروائية الخيالية، تاريخ بألوان غير طبيعية، يخضع لاهواء ومقاييس كنا في الواقع من كبار أساتذتها في مصر والعالم، وسيمر مثل غيره من هذه النوعية من الأفلام دون أن يترك أثرا سوي أن يفضحنا أمام أنفسنا قبل أن يفضحنا أمام العالم.