لم يكن أستاذ الجامعة فقط ناقلا للمعرفة وإنما كان تاريخيا هو المحرك الحقيقي لمنظومة الثقافة والعلم والأدب والفن والابداع في المجتمع. وكان دوما حلقة الوصل بين أجيال الماضي والحاضر، فهو الوحيد الذي يبقي بمحرابه ويخرج كل مريديه الي خارج سور المحراب يحملون شعاع معرفته التي طالما بثها في نفوسهم. وطالما سمعنا عن أساتذة جامعة قادوا منارة التنوير في مجتمعهم وكان لهم الدور الايجابي في ابداع حلول لمشكلات وطنهم. لكن يبدو انه مع تدهور وتدني المنظومة الحاكمة للمجتمع لأسباب لا مجال لذكرها الان والتي للأسف لا نستطيع أن نفصل الأستاذ عنها، تدهورت المفاهيم والقيم والمعايير، وتخلي الاستاذ عن حياده تجاه قضاياه المجتمعية، ووافق أن يكون جزءا من هذه المنظومة المتدنية بدلا من أن يسمو بها، وأعطي الفرصة للسلطة بأداتها الردعية للتدخل واختراق محراب هذا الأستاذ يحركها في ذلك الرغبة في استقرار النظام العام واستتباب النظام المجتمعي ليطرح كل هذا السؤال الذي طالما يتردد في أروقة الجامعات صراحة، أو بين صفحات ومواقع وسائل الاتصال المجتمعي خلسة عن مدي أحقية تدخل أجهزة الدولة والتي من المفترض أن تكون - كما تزعم- أجهزة المجتمع لا النظام- في ضبط سلوك الأستاذ « المنحرف» عن المعايير التي اعتبرتها السلطة «ضابطة» داخل الجامعات، حتي لو لم يكن الأستاذ مشاركا في إرسائها من البداية! وطرح ذلك أيضا سؤالا جدليا حول أحقية الأستاذ في أن يروج لمعاييره ومعتقداته لضبط ما اعتبره الأخير تجاوزات للسلطة! ليدخلنا هذا في جدال غريب حول من له وظيفة بل وأحقية تشكيل منظومة هذا المجتمع الأستاذ الجامعي، أم السلطة السياسية؟ واذا حاول الأستاذ الدعوة الي اعادة مقومات الانضباط السلطوي داخل المجتمع بشكل قد يعارض ما تروج له السلطة، هل من حق الأخيرة أن تنكل به أو تشوه صورته أمام مريديه لينتقل دون وعي شعور عام بأن هناك تجاذبا بين السلطة والاستاذ، وينتقل الأمر من تخصيص حالة الي تعميم الحالات حتي لو لم يكن لدي الباقين أعراض مرض الانحياز وتسييس القضايا المجتمعية.. يبدو أن العلاقة بين السلطة والاستاذ أضحت علاقة في معظمها فاترة تخللتها فترات من التمرد والتعايش الي أن تحول الاستاذ في نظر السلطة قبل وبعد نوبات التغيير السياسي التي شهدها مجتمعنا الطيب مؤخرا إلي «مراهق فكري متمرد» غير كفء يخشي ان يجمح به الرأي ليتجاوز الخطوط الحمراء المحددة له من السلطة، ويحتاج دائما الي تقويم، فلا بحث خارج الجامعة إلا بإذن، ولا سفر إلا بإذن، ولا حديث مع الصحف ووسائل الإعلام إلا بإذن ومن ثم لا تعامل مع الطلاب في القضايا الاجتماعية والوطنية الا بإذن حتي أضحت صورة الأستاذ «الصامت» ، المنفصل عن بيئته وقضاياها والمنعزل في برجه العاجي الذي اختاره لنفسه هي الصورة المثالية لدي الدولة، ليعيش الاستاذ صامتا ويرحل صامتا ويترك تراثا أخرس لا يفهم مفرداته إلا صاحبه. ويضيع المثل و النموذج البناء لأستاذ الجامعة وتساعد السلطة دون وعي- في فترات اللاسلم بين الاثنين في أن تلحق صورة استاذ الجامعة بصورة المدرس الكامنة في ذاكرة العابثين من الطلبة والتي روجت لها الكوميديا الاجتماعية علي خشبة المسرح المصري منذ سبعينيات القرن المنصرم وأعزي اليها تدهور المنظومة القيمية لعلاقة المدرس- التلميذ في المدرسة والتي بدورها حولت النظام الدراسي ماقبل الجامعة الي كارثة تورث الجهل والسطحية والتطاول، حتي تراجعت صورة المدارس كوسيط مجتمعي يزرع قيم الهوية والمشاركة ويروج فقط لقيم الفردية والاستسهال..وحل محل المدرسة ثقافة المراكز التعليمية التي لا غني عنها الان لكل الأسر المصرية كبديل للسنة الأخيرة قبل التعليم الجامعي وكأن الدولة تؤهل الطالب علي مشارف الجامعة لأن المدرسة لاقيمة لها لينتقل الي الجامعة باستعداد كبير أن الجامعة هي الأخري لا قيمة لها وأن «دكاكين» الملخصات خارج أسوار الجامعة أشبه بمراكز التعلم خارج المدرسة، لتعم فلسفة «الملخصات» في الجامعة بين ليلة وضحاها، وتصبح منظومة متكاملة متربصة بالجامعة وأستاذها . بعد أن كان من الصعب علينا جميعا أن نقبل ما اعتبرناه في الكوميديا المصرية فانتازيا تثير الضحك، أصبح واقعا باكيا أن نجد فينا من يتهم بقضايا جنائية، ومن يحاكم لقضايا أمنية، ومن يعزل لقضايا مجتمعية، ومن يذبح لقضايا سياسية ليختلط الحابل بالنابل ولا يعرف أحد علي وجه الدقة لمصلحة من هذا التشويه اللامتناهي لصورة الأستاذ الجامعي. وليس المقصود من هذا الحديث الترويج لأن الاستاذ الجامعي لا يحمل جينات الخطأ والخطيئة، ولكن التنويه المتعمد من وسائل الاتصال والتضخيم غير المحدود منها لتعميم اخطاء الاستاذ الجامعي،وتصويره بصورة المجرم، الخائن، والارهابي لا تضر الاستاذ فقط بل تضر بالجامعة ودورها وأجيال بأكملها يراد نفض الغبار من علي عقولها لا تلويثها بكل أخطاء المدرسين وأعضاء هيئات التدريس والسياسيين. فرفقا بأستاذ الجامعة. فالحاصل علي الشهادات العلمية الرفيعة والمشهود له بالأخلاق والعطاء لمريديه لا يستقيم معه منطق «البمب» وزجاجات المولوتوف.. من ناحيته علي الأستاذ الجامعي أيضا أن يدرك دوره، وينتقي مفرداته وسمات سلوكه، وأن يتصالح مع نفسه ومجتمعه وأن يعترف دائما بخطئه اذا روج أن شمس المعرفة لاتشرق دائما من «الشرق»، والا ينده من نداهة « السياسة».. فرفقا بأستاذ الجامعة. علي السلطة أن تعي جيدا أن الجامعة وأساتذتها في منأي عن اهتزاز صورتهم أمام طلابهم، وأن تعي أن ضوء شمس الاتهام الذي تتبناه كمنطق قد يكون حارقا، وشعاع النور قد يصيب بالعمي اذا ما لم يدرك متي وكيف يستخدمه من أراده.. ليت السلطة بوسائل اعلامها تدرك أن التشكك والسخرية والتطاول لن تنتج الا جيلا مفتقد المثل ولغة الخطاب الجامحة التي لاتنتقد بل تجرح و تذبح، وأحيانا تهدم..ليتها تدرك أن التطاول علي أساتذة الجامعات سيتعدي الأستاذ ليلحق المجتمع بكل طوائفه، وساذج من يتخيل أنه سينجو من ثقافة القبح والقباحة علي الآخر.. فرفقا بأستاذ الجامعة. لمزيد من مقالات د. أمانى مسعود الحدينى