فى الرواية الأخيرة للكاتب الكبير أحمد الشيخ: (رأيتهما قمرين فى المحاق) يقدم رؤية خاصة لمسار الأحداث الريفية, ذلك أن التوجه الغالب لمعظم السرديات الريفية هو كشف التناقض بين الريف والمدينة, فالريف عند هيكل وعبدالحليم عبدالله, هو عالم الرومانسية, وعند توفيق الحكيم هو عالم الفساد الإداري, وعند يحيى حقى هو عالم الصدام بين التخلف والتحضر, وعند عبد الرحمن الشرقاوى هو عالم الصراع الطبقى, وعند بهاء طاهر هو عالم الإسقاط السياسى والقومى, وعند الغيطانى هو عالم البكارة الأولى, وعند يوسف القعيد هوالآخذ فى التداخل مع المدينة, وعند فؤاد قنديل, هو عالم الخرافة الأسطورية, ويأتى أحمد الشيخ برؤيته الخاصة فى مسيرته الممتدة مع الريف فى (كفر عسكر) ليرصد الصدام بين عائلتى (عوف وشلبي), وهو الصدام الذى تابعناه فى نصوصه السابقة: (الناس فى كفر عسكر حكاية شوق حكاية المدندش عاشق تراب الأرض), أما فى الرواية الأخيرة فقد امتد السرد من القرية إلى المدينة, وهو امتداد يئول إلى نوع من المصالحة بينهما, ذلك أن الصدام الذى وقع بين (الحاج إبراهيم) كبير عائلة عوف وبين ابنه (المنصور) كان نتيجة مؤامرة دبرتها عائلة (شلبى) إذ حرّضوا إحدى جميلاتهم (الغندورة) على إغواء الحاج إبراهيم, وبعد استجابته لإغوائها, ادعت أنها حامل منه, فاضطر الرجل إلى الزواج منها, ونتج عن هذا الزواج ابنه: (الغندور) واستمرت الغندورة فى مؤامراتها للتخلص من المنصور, ونجحت فى الإيقاع بينه وبين أبيه, فطرده من البيت, ليرحل إلى المدينة. ويتحرك السرد بالمنصور فى المدينة حركة مغايرة لمألوف السرديات السابقة التى صورت المدينة فى إطار من الرفض القاسى للغرباء, ذلك أن المنصور وجد فى المدينة صديقه القديم (الشناوى) الذى ساعده على إيجاد عمل يعيش منه, فعمل فى أحد المخابز ثم فى مقهى ثم ميكانيكى ثم نجار ثم ساعاتي, وهنا تصل المصالحة بين القرية والمدينة قمتها, إذ إن (عزام) صاحب محل الساعات كان رجلا بلا عائلة أو أهل, ونوى أداء فريضة الحج, فكتب عقد بيع للمحل باسم المنصور, على أن يسترد المحل بعد عودته من الحج, أما إذا توفاه الله فالمحل حلال له, وتوفى عزام فأصبح المحل للمنصور, وكأن السرد تعمد إقامة مقارنة درامية بين الموقف القاسى لوالد المنصور والموقف الأبوى الرحيم لعزام الساعاتى. ويتابع السرد واقعة إضافية لعلاقة (المنصور) بفتاة من عائلة شلبي: (قمر) والتى انتهت بزواجه منها برغم رفض أبويه والعائلة, وينجب المنصور من قمر (عيد), لكن الضغط العائلى أجبره على الانفصال عن زوجته مع احتفاظه بابنه (عيد), وهو نفس ما حدث مع والده الذى طلق (الغندورة) مع احتفاظه بابنه منها (الغندور), ويأخذ السرد مسارا مضمرا يمهد به للزمن الجديد فى كفر عسكر, وهو مسار مأساوى بدأ بمقتل الحاج إبراهيم, ثم موت زوجته الأولى أم المنصور, ثم موت المنصور وقمر حزنا على فراقهما القهري. ويبدو أن هذه العلاقة المزدوجة بين الأب والغندورة من جهة, والمنصور وقمر من جهة أخرى, كانت نوعا من البشارة الاستباقية للمصالحة بين العائلتين (عوف وشلبى), لأن هناك مولودين: (الغندور وعيد) ينتميان للعائلتين معا, وهو ما يفتح النص على أفق جديد من الوقائع التى تؤدى لوحدة العائلتين. والحق أن مجمل سرديات أحمد الشيخ تكاد تكون ذاكرة لمفردات (القرية) التى أخذت فى الغياب فى هذا الزمن, ومن هذه المفردات: (الغيط الزريبة الساقية النورج الشرشرة المنجل السباخ المندرة الدوار الزمام النجع الكفر) وقد ترددت المفردة الأخيرة تسعا وأربعين مرة , بمعدل مرة كل أربع صفحات تقريبا , وكأنها ناقوس يذكر (بكفر عسكر) الذى احتضن معظم سرديات أحمد الشيخ. ومن الملاحظ أن المؤلف كان حريصا على التدخل المقنع فى مفاصل السرد, إذ حضر مقنعا بقناع (طيف ابن المنصور) فى تسعة عشر هامشا قادت السرد إلى عمق زمنى قبل التأنسن حينا, و إلى الزمن الفرعونى مع (الفلاح الفصيح) حينا آخر, مع شحن كل هامش برؤية المؤلف لتحولات الواقع, وتحولات الشخوص بين القرية والمدينة, وما يصاحب كل ذلك من (المصادفات) أو (المؤامرات) أو (الظلم الأبوى والعائلي) أو (الصداقة) أو (الحب) إلى غير ذلك من التفاعلات الداخلية والخارجية التى تجلت فى هذه الرواية لمزيد من مقالات د.محمد عبدالمطلب