ببنادق الكلاشينكوف وقاذفة صواريخ شن مسلحون ملثمون هجومهم الإرهابى على مقر صحيفة "شارلي إيبدو" الساخرة فى قلب العاصمة الفرنسية باريس وعلى مقربة من "الباستيل". الرمز التاريخى للثورة الفرنسية وشعاراتها المتعلقة بالحرية والإخاء والمساواة!! كان الهجوم بمثابة النهاية الدموية المؤسفة وغير الإنسانية لحياة مجموعة من أبرز رسامى الكاريكاتير الساخر فى فرنسا ولكنه فى ذات الوقت كان إيذانا بدخول حرية الرأى والتعبير والصحافة منعطفا جديدا ملئ بالإرهاب وطلقات الرصاص والدماء فى مواجهة عالم يتلكأ فى الحوار ويهمل مكافحة إزدراء الأديان!! ففى صباح الأربعاء 7 يناير 2015 إقتحم رجلان يحملان بنادق كلاشنيكوف وقاذفة صواريخ مقر صحيفة "شارلي إبدو" الساخرة الكائنة فى أحد الأحياء السكنية المزدحمة من باريس، وأطلقوا النار على المتواجدين بمقر الصحيفة أثناء إجتماع هيئة التحرير الذى يجتمع فيه غالبية العاملين. سقط فى المذبحة 12قتيل بالإضافة لإصابة أكثر من 11 شخص حالة بعضهم توصف بالخطيرة. ووقع تبادل اطلاق نار مع قوات الامن اصيب خلاله شرطى بنيران المسلحين لدى مغادرتهم المكان قبل ان يرغموا سائقا على الخروج من سيارته ويصدمون بها أحد المارة. أما أبرز ما رددته وسائل الإعلام فهو هتاف المهاجمون بلغة فرنسية سليمة لا تشوبها لكنة أجنبية بكلمة "انتقمنا للرسول!".لقد تم تصنيف الحادث على أنه أبشع هجوم إرهابى وأكثرها دموية داخل فرنسا منذ أربعين عاما. لماذا؟ إن السبب "السطحى" و"المباشر" للهجوم الغادر كما بدا للعيان "حتى الآن" كان تكرار نشر الصحيفة الساخرة رسوم كاريكاتيرية مسيئة للأديان بوجه عام وللدين الإسلامى على وجه التحديد. وبالتالى لم يكن من الغريب أن تتلقى الصحيفة الساخرة عدة تهديدات في السابق منذ ان نشرت رسوما كاريكاتورية تتعلق بالرسول محمد صلى الله عليه وسلم فى عام 2006. وفى نوفمبر 2011 تم احراق مقر الصحيفة وهو ما إعتبرته الحكومة الفرنسية انذاك بانه "اعتداء". وفى عام 2012 عادت الصحيفة لنشر كارتون مسئ لرسول الله بالتزامن مع موجة من المظاهرات الإحتجاجية فى العالمين العربى والإسلامى وأوروبا ضد إذاعة الفيلم الأمريكى المسئ للرسول والمسلمين والذى حمل عنوان "براءة المسلمين"!! ونتيجة لتزامن العملين معا (إذاعة الفليم ونشر الكاريكاتير المسئ) لأحداث الربيع العربى وحالات عدم الإستقرار فى غالبية الدول العربية إضطرت المدارس الفرنسية والقنصليات والمراكز الثقافية التابعة لسفارات غربية إلى إغلاق أبوابها يشكل مؤقت فى 20 دولة إسلامية خوفا من ردة فعل الجماهير الغاضبة. ومن المفارقات أن الصحيفة الساخرة خرجت على الجماهير فى عددها الاخير بعنوان رئيسى ساخر يقول:"توقعات المنجم ويلبيك: فى عام 2015 أفقد اسناني... وفى عام 2022 اصوم شهر رمضان!" وذلك فى إشارة إلى مخاوف التيار اليمينى الفرنسى المتطرف من إنتشار الإسلام والمسلمين فى البلاد. كما تزامن مع صدور رواية مثيرة للجدل بعنوان "الاستسلام" تتناول أسلمة المجتمع الفرنسى. كما أشار البعض إلى الكاريكاتير الذى نشرته الصحيفة لأبو بكر البغدادى زعيم تنظيم "داعش". البحث عن حل ومن المؤسف أن العالم الذى أدان مرارا وتكرارا إزدراء الأديان لم يتوصل بعد إلى قرار "ملزم" يقيد من الممارسات التى تزدرى الأديان وتسئ إليها وتشعل مشاعر الغضب فى المجتمعات وتعد البيئة الخصبة لنمو الإرهاب وإستفحاله. إن غالبية القرارات الدولية الصادرة بشأن مكافحة إزدراء الأديان مازالت غير مشفوعة بالإلزام مما يفتح الباب أمام تجاوزها بدعوى حقوق الإنسان والمحافظة على الحريات. وتكون النتيجة أن تتحرك قوى الشر والإرهاب بحجة المحافظة على الأديان بينما الأديان منهم براء. ففى عام 2012 وجه الأزهر رسالة إلى الأمين العام للأمم المتحدة بان كى مون، مؤكدا على حتمية صدور قرار دولى يقضى بعدم المساس برموز الدين الإسلامى ومقدساته إسوة بدعاوى المساس بالسامية. وأصدرت الهيئة الدائمة المستقلة لحقوق الإنسان التابعة لمنظمة التعاون الإسلامى بيانا دعا إلى ضرورة التنفيذ الكامل للقرارات الصادرة بهذا الشأن عن مجلس حقوق الإنسان والجمعية العامة للأمم المتحدة. وقد لاقت دعوات الأزهر ومنظمة التعاون الإسلامى ردود أفعال متباينة يمكن تقسيمها إلى مجموعتين:فهناك مجموعة تؤيد وتشجع تلك الخطوة.أما المجموعة الأخرى فتعارض من الأصل فكرة تقديم مشروع قانون للأمم المتحدة يقضى بتجريم إزدراء الأديان (كل الأديان)إنطلاقا من رؤية خاصة بها تقول بأن قانون إزدراء الأديان هو قانون يجرم الإختلاف فى وجهات النظر ويمنع الحوار وقبول الإختلاف. ويظهر الخلاف السابق بين المجموعتين وجود خلاف على مستوى أكبر يعرقل بل ويحول دون صدور أو تنفيذ "قرارات ملزمة"عن المنظمات الدولية، وفى مقدمتها الأممالمتحدة، تتعلق بالمكافحة "الفعالة" لإزدراء وتشويه الأديان. وأدت المواجهة بين الطرفين(دعاة حماية الأديان من الإزدراء والتحقير من جانب ودعاة الحفاظ على الديمقراطية والحريات من جانب أخر) بشأن القرارات المتعلقة بمكافحة إزدراء الأديان الصادرة عن الأممالمتحدة منذ عام 1999 إلى توقفها عند مرحلة "عدم الإلزام". وهكذا بدا من الواضح أن اللعب بنار إزدراء الأديان والسخرية منها وإثارة مشاعر وغضب الجماهير له عواقب وخيمة بغض النظر عن عدم مشروعية تلك العواقب وإرهابيتها وعدم مراعاتها لحقوق الإنسان وحريات التعبير والصحافة والمبادئ السمحة التى تنص عليها الأديان. فعند عتبات بوابات الغضب والتعصب والتطرف يتقهقر العقل بينما تتقدم الوحشية والهمجية والإرهاب بما يحملانه من دمار للحضارة والإنسانية.