نعى الأزهر الشريف، فى بيان له الخميس الماضى، الى الأمة الإسلامية الدكتور القصبى محمود زلط، عضو هيئة كبار العلماء وأحد علمائها البارزين، الذى كان - رحمه الله - من رجال الدراسات القرآنية، وله فى تفسير آيات الأحكام أربعة كتب. لم يشغله ذلك عن الفكر المعاصر فأعدَّ واحدة من أوسع الدراسات عن ظاهرة «المراجعات الشرعية»، التى كانت بادرة الرجوع عن منهج العنف لدى بعض الجماعات الإرهابية، وشغَل - رحمه الله - عدَّة مناصب كان آخِرها نائب رئيس جامعة الأزهر، ثم تفرَّغ لهيئة كبار العلماء التى كان أحد أعضائها المؤسِّسين. وفى آخر حوار صحفى مع «الأهرام» قبل أيام قليلة من رحيله أكد القصبى زلط حرص الإسلام على السلام والتسامح، ورفض جميع أشكال الظلم والعنف والعدوان على المسالمين، بصرف النظر عن دينهم ومعتقدهم. وقال إن التنظيمات والجماعات التكفيرية التى تقتل الأبرياء وتدمر المجتمعات الإسلامية باسم الجهاد هم طلاب سلطة يريدون أن يكونوا قادة باسم الإسلام، ويستخدمون بعض نصوصه مطية لتحقيق أغراضهم. وفى حين شدد عضو هيئة كبار العلماء على ضرورة تنقية كتب التراث والتفاسير من الآراء الغريبة والشاذة وعدم الاستناد إليها فى الأحكام الشرعية. فإنه يفند فى حواره للأهرام أبرز تلك النصوص، لاسيما ونحن باستقبال احتفالات إخوتنا المسيحيين بأعيادهم، ليؤكد فى النهاية أن «المواطنة» وليس الدين هى أساس التعايش بين المسلمين وأتباع الديانات الأخرى. والى نص الحوار... فى السنوات الأخيرة خرجت علينا كثير من الجماعات والتنظيمات تدعى الدفاع عن الإسلام ومقدساته مثل أنصار بيت المقدس، أنصار الشريعة، داعش، وغيرها..ما تعليقكم..وهل ما يصدر عن هذه الكيانات من قتل وتفجيرات يمكن أن يندرج تحت باب الجهاد الذى شرعه الإسلام؟ إن ما نراه على الساحة مما تقوم به التنظيمات الإرهابية من قتل الأبرياء والأطفال والنساء، والتفجيرات التى تحصد الجميع باسم الجهاد، ما هو إلا سلوك المجرمين الذين يكفرون الناس ويستحلون دماءهم، وذلك لا يصح بحال أن ينسب للإسلام. فإذا كان هؤلاء القتلة يعتبرون ما يفعلونه جهاداً مشروعاً.. فالنصوص القرآنية والنبوية تقف ضدهم وضد أفكارهم واعتدائهم الوحشي، فأى جهاد ذلك الذى يكون ضد المسالمين من أى دين أو جنس. ومن عجب أنهم يقتلون الأبرياء ويهتفون «الله أكبر»، فأين هؤلاء المجرمون من أخلاقيات الإسلام، بل أين هم من أخلاقياته فى الحرب، فهؤلاء مدعو الجهاد طلاب سلطة باسم الدين، يريدون أن يكونوا قادة باسم الإسلام.. ولن يتحقق لهم ذلك، لأن الحق هو الذى يعلو دائما. الملاحظ أن المنطق الذى يستند إليه المتطرفون فى حمل السلاح وقتل الأبرياء هو التكفير، هل معنى ذلك أن الكافر ومن لا يعتنق الإسلام يستحق القتل والإبادة كونه غير مسلم؟ هذا المنطق شاذ ولا يقبله عقل، ولا شرع، ولا دين. لأنه ليس من حق أفرادا أو جماعات تكفير أحد، فالتكفير من حق الحاكم وحده عندما ترفع إليه قضية حسبة، كما أن الكفرة المسالمين لا يدعو الإسلام إلى قتلهم ولا يقر ذلك.. وقد علمنا الإسلام أن علاقة المسلم بغير المسلم علاقة سلم وموادعة، لا علاقة حرب وعدوان. كما دعا القرآن الكريم إلى الأخوة الإنسانية التى تربط بين البشر جميعاً، أخوة تقوم على التعايش فى سلام والتعارف فى مودة، وليس على التناحر والقتال. ونحن بصدد احتفالات الإخوة الأقباط بأعيادهم، كيف يكون التعايش بين المسلمين وغيرهم؟ النبى صلى الله عليه وسلم جسد نموذجا عمليا فى علاقته بمخالفيه فى العقيدة، حيث كان يعاملهم معاملة كريمة تظهر فيها الحرية الدينية، ويظهر فيها البر والتسامح. وعندما هاجر صلى الله عليه وسلم إلى المدينة نص فى وثيقة المدينة على أن اليهود والمسلمين أمة واحدة وأن لليهود دينهم وللمسلمين دينهم. فلم يجبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أحداً على الدخول فى الإسلام، وكانت المواطنة تجمع بين اليهود والمسلمين، فالمواطنة هى أساس التعايش وليس الدين. وكلنا يعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استقبل وفد نصارى الحبشة فى مسجده وقام بنفسه على ضيافتهم وخدمتهم، كما استقبل وفد نصارى نجران وسمح لهم بإقامة صلاتهم فيه فكانوا يصلون فى جانب منه، ورسول الله والمسلمون يصلون فى جانب آخر.وعلى هدى الرسول صلى الله عليه وسلم سار خلفاؤه من بعده، فإذا بنا نجد عمر بن الخطاب حين يدخل بيت المقدس فاتحاً يجيب السكان المسيحيين إلى ما اشترطوه: من ألا يساكنهم يهودي، وتحين صلاة العصر وهو داخل كنيسة القدس الكبرى فيأبى أن يصلى فيها، كى لا يتخذها المسلمون من بعده ذريعة للمطالبة بها واتخاذها مسجداً. ونجده وقد شكت إليه امرأة مسيحية من سكان مصر أن عمرو بن العاص قد أدخل دارها فى المسجد كرهاً عنها، فيهتم خليفة المسلمين ويسأل عمر عن ذلك، فيخبره أن المسلمين كثروا، وأصبح المسجد يضيق بهم وفى جواره دار هذه المرأة وقد عرض عليها عمرو ثمن دارها وبالغ فى الثمن فلم ترض، مما اضطر معه عمرو إلى هدم دارها وإدخالها فى المسجد ووضع قيمة الدار فى بيت المال تأخذه متى شاءت. ومع أن هذا مما تبيحه القوانين المعاصرة ، وهى حالة يعذر فيها عمرو على ما صنع، فإن أمير المؤمنين لم يقبل بذلك، وأمر عمرو أن يهدم البناء الجديد من المسجد ويعيد إلى المرأة المسيحية دارها كما كانت. وما المقصود ب” الفتنة”؟ للفتنة تأويلات عدة لدى المفسرين، فذهب البعض إلى أن معناها الشرك، فكأن المراد بقوله تعالى «وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ»أن قاتلوهم حتى لا يبقى شرك وتزول الأديان الباطلة فلا يبقى إلا الإسلام. وهذا الرأى نعتبره شاذا ولا نوافق عليه، لأنه إذا فسرت الفتنة بأنها إزالة الشرك فهذا يؤدى إلى أن تكون العلاقة بين المسلمين وغيرهم علاقة حرب. ولكن المفهوم الصحيح للفتنة هو ما ذهب إليه جمهور العلماء بأنها: دفع الأذى عن المستضعفين. لعل هذا يستدعى لدينا النصوص القرآنية والأحاديث التى تستغل فى إحداث فتنة بين المسلمين وغيرهم، كما يتخذها التكفيريون ذريعة للعدوان وحمل السلاح؟ نعم فهناك العديد من النصوص التى يساء فهمها وتلوى أعناقها ويتم تأويلها تأويلا خاطئا، كالحديث عن الخلافة، أو القول بكفر تارك الصلاة، أو كفر الحاكم الذى لا يطبق الحدود، وكذا الحديث عن الجزية، وعدم إلقاء السلام على النصارى واضطرارهم لأضيق الطريق، وغيرها، وهذا خطر كبير، يجب التصدى له عن طريق تنقية كتب التراث والتفاسير التى تحض على ذلك. وماذا عن حديث «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله...»؟ ورد فى الصحيحين قوله صلى الله عليه وسلم: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا منى دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله». وهذا من الأحاديث التى يساء بها إلى الإسلام ووصفه بأنه دين حرب وسيف لإجبار الناس على اعتناقه.. لكن العلماء بينوا أن المراد بالناس فى الحديث ليس كل الناس، وإنما المراد بهم الكفار الذين حاربوا المسلمين ونكثوا عهودهم وناصبوهم العداء، فلم يقبل منهم إلا الإسلام أو السيف..