إذا أردت أن تسأل عن حال عصر فاسأل عن حال الفلسفة.وأنا أريد أن أثير هذا التساؤل الآن، وأريد من الآخرين أيضاً أن يثيروه. ومع ذلك فلسنا وحدنا فى إثارة هذا الذى نتساءل عنه. فقد أثاره من قبلنا فيلسوفان عظيمان أحدهما ألمانى اسمه هيجل إذ قال إن فلسفته تعبر عن عصره، وإن عصره هو نهاية العصور حيث ينتهى المطلق فيه إلى تمام الوعى بذاته بعد أن لم يكن كذلك. والآخر فرنسى اسمه سارتر، إذ ارتأى أن الماركسية هى فلسفة القرن العشرين بدعوى أن فلسفة أى عصر هى الفلسفة التى تدافع عن الطبقة الصاعدة. وحيث إن الطبقة الصاعدة فى القرن العشرين هى الطبقة العمالية، والماركسية هى المعبرة عن مصالح هذه الطبقة فهى اذن فلسفة ذلك القرن. والسؤال بعد ذلك: ماذا عن حال الفلسفة الآن؟ ولكن ماذا يعنى لفظ «الآن» الوارد فى عنوان هذا المقال؟ الآن، لغةً، أصلها أوان حُذفت الواو بعد أن قُلبت بالألف فصارت آن وتعنى الوقت الحاضر، وهذا الوقت يصل الماضى بالمستقبل، أو بالأدق هو نهاية ماضٍ وبداية مستقبل به ينفصل أحدهما عن الآخر، فهو اذن فاصل بينهما، ولكنه أيضاً واصل بهما باعتباره مشتركاً بين الماضى والمستقبل. والسؤال بعد ذلك: أين «الآن» فى حال الفلسفة؟ إنه، فى رأيي، محدد بثلاث عشرة سنة ابتداء من عام 1992 حتى عام 2005. وتبريرى لهذا التحديد مردود إلى مؤتمر عقدته الأكاديمية الدولية للنزعة الانسانية فى عام 1992 فى جامعة أوترخت بهولندا تحت عنوان رئيسى «تحديات ضد التنوير» وعنوان فرعى «دفاعاً عن العقل والعلم». والسؤال اذن: لماذا يكون هذا المؤتمر ل «الأكاديمية الدولية للنزعة الانسانية» هو البداية لتحديد حال الفلسفة الآن؟ ونجيب بسؤال: ما هى هذه الأكاديمية وما دورها فى ذلك التحديد؟ وفى صياغة أوضح؟ بماذا تتميز هذه الأكاديمية عن الأكاديميات السابقة عليها تاريخياً؟ كأن أفلاطون أول مَنْ صك مصطلح «أكاديمية» إذ أطلقه على مدرسة أنشأها فى عام 387 ق.م. على أبواب مدينة أثينا فى أبنية تطل على بستان أكاديموس وهو اسم لبطل قديم كان شفيعاً لذلك المكان. وواصل التدريس فيها حتى وفاته فى عام 340 ق.م. وبعد ذلك نشأت أكاديميات فى أثينا وروما لمدة تسعة قرون حتى ألغاها الامبراطور جوستنيان فى عام 529 م. وفى ذلك الزمان كانت الأكاديميات تشير فى مختلف أنحاء البلاد إلى تجمع عدد من العلماء لدفع عجلة التقدم فى مجال العلوم والفنون. أما الأكاديمية الدولية للنزعة الانسانية فهى نسيج وحدها، إذ تتميز بأنها تضم أولئك الانسانيين الذين يحرضون البشر على تنمية القيم الانسانية التى تحرض على البحث الحر فى مواجهة الخرافات والأفكار اللامعقولة، وفى مواجهة السلطات التى تريد أن تكون رقيبة على البحث الحر فى الحد الأدنى أو خنقه فى الحد الأقصي. هذا دور الأكاديمية بالسلب أما دورها بالإيجاب فهو ايقاظ هذه الرؤية الانسانية عند الآخرين وحثهم على أن يكونوا مهمومين بمستقبل البشرية فى دفاعها عن الحرية. تأسست فى عام 1983 بمناسبة مرور خمسة قرون على محكمة التفتيش الاسبانية، وثلاثمائة وخمسين عاماً على محاكمة جاليليو بسبب تأييده نظرية دوران الأرض حول الشمس. ويعين أعضاؤها بالانتخاب وعددهم محدد بثمانين. أما عن انتخابى فكان فى عام 1989، أى بعد نشأة الأكاديمية بست سنوات. وفى عام 1992 اجتمع أعضاء الأكاديمية فى جامعة أوترخت بهولندا، وهى الدولة التى أنشأت «كرسى ابن رشد» فى جامعة ليْدن لكى تعين عليه نصر حامد أبو زيد فى 27 نوفمبر عام 2000. وقد تم الاجتماع تحت عنوان «تحديات ضد التنوير». وفى مقدمة هذه التحديات شيوع الأصوليات الدينية التى تنكر أن الانسان سيد مصيره وأن إعمال العقل فى النص الدينى رجس من عمل الشيطان على حد قول ابن تيمية: وفى مقدمتها ثانياً نشأة «مدرسة فرانكفورت بألمانيا» التى تزعم بأن النازية اللاعقلانية هى من افراز التنويرالعقلاني، وأن الأسطورة مغروزة فى العقل الإنسانى وليس فى إمكانه الفكاك منها. وفى مقدمتها ثالثاً تيار ما بعد الحداثة الذى يتزعمه الفيلسوف الألمانى مارتن هيدجر الذى انضم إلى الحزب النازى فى عام 1933 وظل عضواً فيه حتى عام 1945. وفى عام 1966 أعلن فى حوار معه لمجلة «ديرشبيجل» الألمانية أن النازيين هم الأمل الوحيد للأمة الألمانية. وأظن أن هذه التحديات الثلاثة كفيلة بإحداث هزة لسلطان العقل أساس التنوير، تعقبها هزة للفلسفة من حيث إنها مؤسسة على ذلك السلطان، ومن ثم تدخل فى أزمة. وقد فطن الفيلسوف الأمريكى ريتشارد رورتى إلى تلك الأزمة فى ذلك الاجتماع ومن هنا كان عنوان بحثه «تروتسكى والنباتات المتوحشة». كان تروتسكى زعيما شيوعيا منافسا لستالين فأجهز عليه ستالين وقتله بوحشية مماثلة لنباتات تنمو بطريقة وحشيةبحيث لا تستطيع الكشف عن بداية جذورها. وقد حاول رورتى إزالة هذه الوحشية عن مصير الفلسفة فتناول تاريخها على أنه روايات وليس على أنه جملة براهين متناقضة، وأن هذه الروايات هيالوسيلة لإقناع الآخرين بما تنطوى عليها من أفكار. ورواياته ذات صبغة علمانية. أما عن بحثى المعنون «السلام والتقدم» ففكرته المحورية أن أشرس تحدٍ للفلسفة هو الدوجماطيقية التى يتوهم العقل بسببها أنه قادر على قنص الحقيقة المطلقة. وقد سبق أن بلورت ذلك التحدى فى كتابى المعنون «قصة الفلسفة» ( 1968). وهى رواية فلسفية على نحو ما يرى رورتي. والسؤال بعد ذلك: لماذا اختير رورتى للحوار مع فلاسفة آخرين لبيان حال الفلسفة الآن؟ لمزيد من مقالات مراد وهبة